رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تفجيرات كرمان وسياسة الرقص على النار

تعد تفجيرات كرمان هي الحادث الأهم والأكثر دموية في تاريخ العمليات الإرهابية التي تمت في إيران خلال العقود السابقة، ومن أكثر العمليات الإرهابية التي أحرجت النظام داخليًا، فعدد الضحايا قد تجاوز المائة، خلاف المصابين، مما حتم أن يظهر الخطاب السياسي الداخلي أكثر عدائية للخارج، خاصة إسرائيل والولايات المتحدة، في محاولة لاحتواء أي تصعيد داخلي غير محسوب في ظرف سياسي هو الأخطر منذ عقود.

تصريحات مرشد الثورة، آية الله خامنئي، اعتمدت على فكرتين أساسيتين، أولًا: الاتهام المباشر وغير المباشر لإسرائيل وأمريكا في تفجيرات كرمان رغم إعلان "داعش" مسئوليته عن الحادثة.. ثانيًا: الوعد بالانتقام المدوي خلال فترة قصيرة، في محاولة امتصاص للغضب الشعبي خاصة أهالي الضحايا.

 

حاول الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، سواء في خطابه بعد الأزمة مباشرة، أو أثناء مراسم الدفن الرسمية لضحايا الحادثة، أن يقدم تفجيرات كرمان بوصفها رد فعل لمساندة إيران للمقاومة في غزة وجنوب لبنان.. منددًا بدور إسرائيل، ومتوعدًا برد قاسٍ في القريب، مستخدمًا لفظ "انتقام" بشكل مباشر، واعتبر أن الهدف من العملية بأكملها هو إلهاء إيران عن دورها التاريخي في مساندة القضية الفلسطينية، خاصة دعمها لحماس وحزب الله وصراعهما مع دولة الاحتلال.

اتهم "حسين سلامي"، قائد الحرس الثوري، الصهاينة، على حد تعبيره، بضلوعهم المباشر في تفجيرات كرمان، معتبرًا "داعش" مجرد أداة في يد أمريكا وإسرائيل. وتناول نفس الخطاب خطيب الجمعة في مشهد "أحمد علم الهدى"، وكذلك "أحمد خاتمي" خطيب الجمعة في طهران، مما يؤكد أن النظام الإيراني قرر تبني خطاب موحد حيال الأزمة، وهو القفز على اعتراف "داعش" بضلوعه في العملية إلى اتهام إسرائيل، مباشرة.

الخطاب السياسي العام في إيران يعيد إنتاج رمزية قاسم سليماني من جديد.. فقد صرّح "قليباف"، رئيس مجلس الشورى الإسلامي، بأن حادثة كرمان تعد دليلًا على أن قاسم سليماني ما زال حيًا، ويسبب الرعب لأعداء إيران وهو في مرقده، كما صرّح قائد الحرس الثوري، أثناء مراسم دفن الشهداء، بأن قاسم سليماني هو رمز المقاومة، وإلا لما تمت العملية الإرهابية في الذكرى الرابعة لمقتله. وذلك ما أكد عليه "إبراهيم رئيسي"، رئيس الجمهورية، في محاولة لإضفاء المزيد من القداسة على شخص سليماني، ومضاعفة رمزيته السياسية والعسكرية والدينية. فالنظام الإيراني يمارس سياسة داخلية تعتمد على إلقاء كرة النار إلى خارج الحدود الإيرانية، بهجومه على إسرائيل وأمريكا، بالإضافة إلى إعادة إنتاج لرمز عسكري وسياسي ممزوج بالطابع الديني المذهبي للدولة الإيرانية.

رغم تصريحات وزير الداخلية بأن الوضع الأمني في كرمان تحت السيطرة، إلا أن محافظ كرمان قرر تأجيل امتحانات المدارس والجامعات، كما تم منع مسيرة شعبية لتشييع جنازة شهداء الحادثة.. وتم الاكتفاء بأهالي الشهداء، والمراسم الرسمية، التي حضرها الرئيس الإيراني وقائد الحرس الثوري، مع السماح بالعديد من المسيرات المنددة بالحادثة والداعمة للدولة في العديد من المحافظات، مثل طهران وتبريز وغيرهما، رغم سوء الأحوال الجوية وتساقط الثلوج في ذلك التوقيت من العام.

خروج بعض الأصوات على الساحة السياسية التي تشكك في كفاءة وقوة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية.. التي سمحت بوقوع حادثة بهذه الضخامة، في دولة كإيران، توجه الجزء الأكبر من ميزانيتها لصالح الأجهزة الأمنية المختلفة والمتعددة.

ظهور تيار داخل المجتمع الإيراني، خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، يُحمّل مسئولية الحادثة لسياسة النظام الإيراني الخارجية، والزج بإيران في صراعات إقليمية لا طائل من ورائها، ومما يعكس قلق النظام من تنامي ذلك التيار المعارض، خاصة بين الشباب، تصريح المدعي العام الإيراني "محمد موحدي آزاد" الذي يهدد فيه كل من تسول له نفسه إشاعة الفتنة أو ترويج الشائعات على مواقع التواصل الاجتماعي ضد حادثة كرمان أو محاولة انتقاد الدولة، كما تم تداول بعض الأخبار عن القبض على بعض النشطاء على منصة إكس "تويتر" بواسطة الحرس الثوري مباشرة بعيدًا عن اختصاصات وزارة الداخلية.

يُعد توقيت الحادثة هو الأكثر تأثيرًا على الصعيد الداخلي الإيراني، فالدولة الإيرانية الآن تتأهل للانتخابات البرلمانية "مجلس الشورى الإسلامي" في دورتها الثانية عشرة، مما يضع النظام بين فكي الرحى، بين تهدئة المجتمع وهندسة البرلمان، خاصة أن "مجلس صيانة الدستور"، وهو المجلس المنوط به فحص صلاحية المرشحين للانتخابات، قد رفض ما يزيد على 52% من المتقدمين، وهي النسبة الأعلى منذ بداية الاستحقاقات الانتخابية بعد الثورة، ومنهم رموز سابقون للنظام الإيراني، مما يعكس بعض الصراعات الداخلية، التي ستسهم تفجيرات كرمان في إشعالها. والجدير بالذكر أن مرشد الثورة، آية الله خامنئي، قد صرّح مؤخرًا بأن أي محاولة لإفساد الانتخابات أو رفضها هى رفض لصحيح الإسلام والدين القويم. فرغم ضعف البرلمان سياسيًا في دوائر صنع القرار في إيران، فدوره يأتي بعد سلسلة تراتبية معقدة من المجالس وكذلك بعد الولي الفقيه، ولكنه سيظل مانح الشرعية الشعبية لبقاء النظام واستمراره.

  • أتت الصحافة الإيرانية معبرة في صفحاتها الأولى عن توجه الدولة في قيادة الأزمة الراهنة، فرغم تصريح وزارة الداخلية عن تمكنها من القبض على 9 عناصر من المتورطين في العملية، وتحديد شخصية أحد الانتحارين، وأن جميعهم من المنتمين لتنظيم "داعش خراسان".. إلا أن التوجهات الصحفية قررت تبني الخطاب السياسي المعلن، فكانت الصفحة الأولى من صحيفة "جام جم" تقول: "الانتقام هو فناء إسرائيل"، كما نشرت جريدة "همشهري" كاريكاتورًا لنت...يا..هو، وهو بلحية طويلة ويرفع علم داعش، ومكتوب أسفلها، صانع داعش.
  • إجمالًا، النظام الإيراني الآن كمن يرقص على النار، تفجيرات كرمان رغم ما خلفته من آثار دموية على المستوى الشعبي، لكن فتيل النار سوف يطال عباءة النظام الإيراني، سواء في الداخل أو الخارج في ظل متغيرات خارجية وداخلية معقدة، وسنحاول أن نرصد التغيرات والتداعيات الإقليمية في كتابة تالية.