رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أبواب القرآن 14.. قصة الثابت والمتحول فى تفسيرات القرآن الكريم

برنامج أبواب القرآن
برنامج أبواب القرآن

- اللباس لا دخل للدين فيه هو ليس أكثر من عادة تخضع لكل زمان ومكان وكل بيئة

- العمل على توفير النفقة أصبح أمرًا صعبًا وهو عند الله أفضل من صلاة النفل

- أنا لا أمنع الناس من الاستزادة من العبادة لكن لا يجب أن تكون على حساب الفرض

- الإيمان تصديق والتصديق عمل قلبى وقوة الإيمان فى تصديقك أركان الإسلام فى داخلك

طبيعة الأشياء من حولنا أن فيها الثابت والمتحول، والأمر نفسه فى تفسير القرآن الكريم فيه الثابت والمتحول، ورغم أن هذا أمر طبيعى تمامًا، إلا أن هناك من يستخدم الثابت والمتغير فى تفسيرات القرآن لتحقيق أهداف سياسية والوصول إلى غايات دنيوية، وهو ما جعلنى أمد الحديث عن هذه القضية بينى وبين الدكتور محمد سالم أبوعاصى، أستاذ التفسير بجامعة الأزهر.

■ الباز: كيف ترى قضية الثابت والمتحول فى تفسيرات القرآن الكريم؟ 

- أبوعاصى: سبق وقلنا إن القرآن به دلالات قطعية قليلة جدًا، وأكثر الدلالات فيه ظنية، أى تقبل الرأى والرأى الآخر، ولذلك فالمطلع على كتب التفسير سيجد اختلافًا كبيرًا، وخذ عندك مثلًا تفسير ابن كثير، سنجد فى تفسير بعض الآيات اختلافات بين الصحابة والتابعين وتابعى التابعين، هذا يقول رأيًا وهذا يقول رأيًا آخر. 

نأتى لنقطة ثانية وهى أن القرآن صالح لكل زمان ومكان، نحن نتفق على ذلك جميعًا، وما دام كذلك فهو كتاب الخلود، خالد إلى يوم القيامة، لكن هناك مشكلات تجد، وهذه المشكلات لا بد أن تكون لها أحكام، فهل تكون التفسيرات الموجودة لها الكلمة الأولى والأخيرة فيما يستجد؟ وهل تظل المعانى التى تستنبط من معانى القرآن ثابتة؟ لو قال لنا أحد ذلك فنحن نغلق الباب أمام أى وكل اجتهاد. 

ففى القرآن المفهوم واحد لكن الأفراد متغيرون، مثلًا عندما نقرأ قوله تعالى «خُذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها»، مفهوم الصدقة واحد لا يتغير، لكن ما يتغير هو شكلها، فزمان كانت تمرًا وشعيرًا وقمحًا، لكن الآن هى أموال نقدية لأنها تناسب العصر الذى نعيش فيه. 

■ الباز: الثابت هنا فى الزكاة التى تزكى وتطهر.. لكن الشكل هو الذى يتغير؟ 

- أبوعاصى: الشكل هو المتحول، وذلك حتى تظل صلاحية القرآن لكل زمان ومكان. 

وعندك مثلًا «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم» الثابت هنا هو الإعداد للعدو، لكن الأفراد متغيرون، بمعنى أدوات الحرب، فى زمن نزول القرآن تحدث عن رباط الخيل، لكن الآن يمكن أن نتحدث عن القوة الاقتصادية والقوة المعنوية والحرب الإلكترونية، فلا يجب أن يقف أحد ويقول لا بد من الخيل. 

هذا المثل لا يقيد يد المفسر، والقرآن يقول «ما جعل عليكم فى الدين من حرج»، فهل الحرج واحد فى كل العصور وكل الأزمان؟ بالطبع لا، وعندما يقول القرآن «وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه» ماذا يعنى بلسان قومه؟ أى بلغتهم، وما دامت اللغات تختلف إذن فالفهم يختلف حسب البيئة وحسب الزمن الذى نعيشه. 

■ الباز: بهذا المقياس ما الذى تقوله عمن يتمسكون بالشكل الذى كان عليه السلف، ارتداء الجلباب القصير، إطلاق اللحية، استخدام السواك، ويقولون إن هذا من قوة الإيمان، ومن لا يتسِك بذلك يكون بعيدًا عن الإسلام؟ 

- أبوعاصى: كل ما تحدثت عنه لا علاقة له بجوهر الإسلام، فاللباس لا دخل للدين فيه، هو ليس أكثر من عادة تخضع لكل زمان ومكان وكل بيئة، يعنى النبى نهانا عن الكِبر والخيلاء، ولكنه قال كلوا واشربوا ما شئتم لكن دون إسراف، والمعنى أن الشرع لا يدخل فى الزى إلا إذا كان فيه خيلاء وإسراف وكِبر، ما عدا ذلك فالشرع لا يتدخل، ونحن علماء الأزهر نرتدى هذا الزى لأنه تم الاتفاق عليه من قديم الزمن. 

■ الباز: البعض يطلق على الزى الأزهرى بأنه زى دينى. 

- أبوعاصى: هذا خطأ كبير، فهو زى عرفى وليس زيًا دينيًا، تعارف عليه علماء الأزهر كما تعارف رجال الجيش على زيهم، وكما اتفق رجال الشرطة على زيهم، فالزى من العادات وليس من العبادات، أما من يقول إن التمسك بالزى القديم دليل على قوة الإيمان فهذا قول باطل، لأن الإيمان تصديق، والتصديق عمل قلبى، وقوة الإيمان فى تصديقك أركان الإسلام فى داخلك. 

■ الباز: لكنهم يقولون إن الإيمان هو ما وقر فى القلب وصدقه العمل، فهم يعتبرون أن ما يقومون به عمل يتشبهون فيه بالنبى، هؤلاء موجودون لا نتحدث عن خيال، ومنهم من يعتبرون أن الاختراعات الحديثة بدعة، وأن الوظائف فى الدولة حرام.. كيف ترى ذلك؟ 

- أبوعاصى: القرآن يقول «الذين آمنوا وعملوا الصالحات»، علماء النحو يقولون إن العطف يقتضى المغايرة، إن هناك تغايرًا بين العمل والإيمان، الإيمان تصديق، ولذلك عند أهل السنة، ويصدقه القرآن، أن الإنسان لو آمن ولم يعمل فهو مؤمن بالله ورسوله ومؤمن بأركان الدين، وليس بكافر، لا تستطيع أن تنفى عنه الإيمان، ولكن يمكن أن تقول إنه ناقص الإيمان، فالعمل شرط كمال الإيمان وليس شرط الإيمان. 

وعندما نأتى إلى «الذين آمنوا وعملوا الصالحات» نسأل: ما هى الصالحات؟ سنجد أنها تنصرف إلى إتقان العمل، الطبيب فى مستشفاه والصيدلانى فى صيدليته والفلاح فى حقله، كل عمل أنت تنفع به البشرية وتسعد به الناس هو عمل صالح. 

■ الباز: عملوا الصالحات هنا ليس مقصودًا بها الصلاة والصيام والزكاة. 

- أبوعاصى: الصلاة والزكاة والصيام والحج شعائر، لكن الصالحات دائرة أوسع من ذلك بكثير. 

■ الباز: معنى ذلك أنه حتى من يقوم بكنس الشارع، وهذا ليس تقليلًا منه، يقوم بعمل صالح. 

- أبوعاصى: كل علم وكل عمل يخدم البشرية تريد به وجه الله هو عمل صالح، يعنى عندما تعين ضعيفًا فأنت تقوم بعمل صالح، عندما تبر والديك فأنت تقوم بعمل صالح، وعندما ذكر القرآن بر الوالدين لم يخص المسلمين به، لأنه عمل إنسانى أخلاقى، لم يقل «وصينا المسلم»، ولكن قال «ووصينا الإنسان». 

■ الباز: هذا دليل على أن القرآن كتاب إنسانى فيه مثل هذه الأخلاقيات الرفيعة؟ 

- أبوعاصى: الوصية الإلهية واضحة للإنسان مهما كانت ديانته، ووصينا الإنسان بوالديه فى المطلق. 

واسمح لى أن أقول شيئًا، هناك قول شائع إن فرض العين أفضل من فرض الكفاية، فرض العين هو الذى يلزمك أن تعمل به، وفرض الكفاية يكفى أن يقوم به البعض عن الكل، لكن هناك من يقول إن فرض الكفاية أفضل من فرض العين، لأن فرض الكفاية يعود على المجتمع بينما يعود فرض العين عليك فقط، فمن يسهر فى طلب العمل وهو فرض كفاية أفضل ممن يصلى النوافل، وطبيب يسهر لراحة المرضى أفضل ممن يسهر لصلاة النفل.

وعندك مثلًا من يسهر طوال الليل يصلى، ولا يستطيع أن يقوم لعمله، هذا يعطل مصالح الناس، ولو نام حتى ينجز عمله فى الصباح، فهذا خير من صلاته طوال الليل.

أنا لا أمنع الناس من الاستزادة من العبادة، لكن لا يجب أن تكون على حساب الفرض، أنت مكلف فى الصباح بالعمل فى دائرتك، ولذلك تجد من يحرصون على التهجد فى العشر الأواخر من رمضان، هذا عظيم، لكن يجب ألا يكون هذا متعارضًا مع عملك الأساسى الذى تحصل مقابله على أجر من الدولة تعيش به أنت وأولادك، يعنى سائق تاكسى أو صنايعى هل أترك عملى وأذهب إلى التهجد والعيد داخل وأولادى يحتاجون إلى ملابس وطعام ونفقات؟!. 

■ الباز: يعنى الإنفاق على الأولاد أفضل من الاعتكاف والتهجد. 

- أبوعاصى: بالضبط.. خاصة أن مفهوم النفقة ثابت لكن شكلها متغير، فالنفقة الآن مختلفة تمامًا، مصروفات مدارس بآلاف الجنيهات، علاج وأدوية ومتطلبات معيشة، ولذلك فالعمل على توفير النفقة أصبح أمرًا صعبًا، وهو عند الله أفضل من صلاة النفل. 

■ الباز: هناك مساحة مهمة جدًا، فهناك كلام قاله الرسول، صلى الله عليه وسلم، كنبى مرسل، وهذا ثابت لا خلاف عليه، وهناك كلام قاله كقاضٍ يحكم بين الناس، وهناك كلام قاله كقائد دولة، ومن هنا نجد أن هناك كلامًا قاله الرسول يتناسب مع العصر وكلامًا آخر لا يتناسب معه.

- أبوعاصى: كما ذكر الإمام القرافى هناك كلام قاله الرسول باعتباره رئيس دولة، وهناك تصرفات قام بها باعتباره قاضيًا، وهناك أقوال قالها كنبى يأتيه الوحى من السماء، فعندما يقول «أنتم أعلم بشئون دنياكم»، وعندما يقوم بحفر الخندق فعل ذلك باعتباره قائد حرب ورأى أن الظرف يقتضى هذا، وعليه فليس مطلوبًا من كل قائد حرب أن يقوم بحفر خندق، وعندما يقول الرسول، صلى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضًا مواتًا فهى له»، هذا قاله باعتباره رئيس دولة، فلا يمكن أن يأتى أحدهم الآن ويأخذ أرضًا ويقول إنها لى، لا بد أن تعود إلى الدولة وتأخذها بالطريقة الرسمية، وعليه فليس كل ما قاله النبى ملزمًا لنا الآن. 

■ الباز: لكن الناس بالفعل تلزم نفسها بكل ما قاله النبى سواء كان نبيًا أو قاضيًا أو رئيس دولة.

- أبوعاصى: هذا منطق مغلوط.. فالنبى، صلى الله عليه وسلم، كانت له خصوصية ينفرد بها، فالنبى كان يواصل الصيام، فهل أواصل الصيام أنا أيضًا، النبى كان يقول «من منكم مثلى، فإنى أبيت عند الله يطعمنى ويسقينى»، كان الله يعطيه قوة أن يتحمل، لكن هذه القوة ليست فينا، وأعتقد أن السنة تحتاج إلى حديث طويل. 

■ الباز: يمكن أن يكون بيننا حديث طويل وأبواب جديدة ندخل منها إلى السنة. 

- أبوعاصى: هناك سنة قالها باعتباره رئيس دولة وسنة قالها باعتباره قاضيًا وسنة باعتباره نبيًا ويوحى إليه، وأنا أريد أن أدرس الظرف التاريخى لبعض السنن، الأحاديث وظروفها التاريخية، فإذا كان عندنا فى القرآن أسباب نزول، لماذا لا ندرس أسباب ورود الحديث؟، فما هو الظرف الذى قال فيه النبى «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» ما هو الظرف الذى قال فيه ذلك؟، إننا فى حاجة إلى دراسة الكثير من الأحاديث فى ظرفها التاريخى. 

■ الباز: القضية التى طرحناها هنا مهمة جدًا، فالمعنى الثابت والمثال المتحول يجعلنا نفهم جيدًا كيف أن القرآن بالفعل صالح لكل زمان ومكان، لكننى أسألك عن سر تغييب هذه المعانى التى هى موجودة بالفعل فى تراثنا، لماذا يتم تغييب هذه المعانى على لسان المفسرين المحدثين والوعاظ والخطباء؟ 

- أبوعاصى: أعتقد أنه فى العام فإن السبب فى ذلك هو الجهل، وهذه مصيبة كبيرة، والعامل الثانى، وهو الأقل خطورة، اتقاء المشاكل مع الناس. 

■ الباز: رغم أن هذا ييسر حياة الناس ويجعلهم أسعد. 

- أبوعاصى: المشكلة أن هناك من يؤثر السلامة، لأن هذا الكلام يفتح باب الجدل والطعن فيمن يتحدث به، لكن الجهل هو الأخطر، لأن من يرددون الكلام المغلوط ويغيبون هذه الحقائق أسرى لقوالب محفوظة، يعنى أنت تسمع من يتحدث عن وسطية الإسلام، لكن فى النهاية لا يقدم لك إلا كلامًا إنشائيًا فارغًا لا قيمة له، وإذا طلبت تفاصيل، يقولون لك إنه دين الرحمة والطيبة والمحبة، وتسأل: ما ترجمة ذلك فى الواقع؟ لا تجد برنامجًا عمليًا، وعندما تسأل أحدهم عن خطبة الجمعة ما الذى يسمعه فيها؟ يقول لك إن الشيخ يصرخ فى الناس، وهذه هى المشكلة. 

■ الباز: هل نقوم بتربية الدعاة بطريقة خاطئة؟ 

- أبوعاصى: أعتقد أنه فى الأعم الأغلب نعم. 

■ الباز: الداعية أو الواعظ أو الخطيب لا تجد عنده الروح الناقدة أو الروح الباحثة، فقد تمت تربيته على أن ينقل ثم يعيد قراءته على الناس دون تدقيق أو اجتهاد؟ 

- أبوعاصى: المشكلة أنك تسمع كلامًا عندما تعرضه على أوليات المنطق تجده مرفوضًا، يعنى مثلًا تسمع واعظًا يقول إن سيدنا عمر بعد موته جاء لابنه فى المنام، سأله الابن: ماذا فعل الله بك؟ فرد عمر: لما جاء الملكان لسؤالى وأجلسانى، فقلت لهما: من ربكما؟ 

■ الباز: هذا متداول جدًا بالمناسبة عن سيدنا عمر. 

- أبوعاصى: أعرف ذلك، والمنطق يرفضه تمامًا، فهل معقول أن سيدنا عمر هو من سأل الملائكة عن ربهما؟ ثم ما الذى يجعلنا نصدق ذلك من الأساس، من رواه ومن نقله، الغريب أنك تجد الناس فى المساجد يصيحون ويصرخون، مع أن هذا الكلام غير ثابت.