رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر لا تسعى للأضواء.. دورها محورى

جاءت زيارة رئيسة المفوضية الأوروبية وقادة أوروبا الاستثنائية لمصر في ظل سياقات متعددة تعزز من أهميتها، حيث ترتبط هذه السياقات بتطورات إقليمية متعلقة بالحرب في قطاع غزة، بالإضافة إلى التطورات الداخلية في مصر.. ورغم أن الموقف الأوروبي من الأحداث الجارية في قطاع غزة، منذ بداية الحرب الإسرائيلية على القطاع، في أكتوبر الماضي، كان في البداية متباينًا، إلا أنه شهد تغيرات بارزة في الآونة الأخيرة، حيث تضمنت المواقف الأوروبية إدانة للعمليات العسكرية الإسرائيلية، ودعوة إلى وقف الحرب وزيادة المساعدات الإنسانية لغزة، بالإضافة إلى التأكيد على السعي لاستعادة مسار السلام وتحقيق الحل العادل للقضية الفلسطينية.. وهو ما نادت به مصر مبكرًا، ومنذ اللحظات الأولى لاندلاع هذه الحرب، ولم ينتصح أحدٌ وقتها، إلا أن التطورات الإقليمية أدت إلى تغيير مواقف الدول الأوروبية، نتيجة لضغوط الرأي العام، والتخوف من تبني مواقف داعمة لإسرائيل، وتأثيرات الحرب على الاضطرابات الإقليمية.. لكل هذا وغيره، يسعى الوفد الأوروبي الزائر في القاهرة إلى تعزيز التعاون مع مصر، كشريك استراتيجي في مواجهة التحديات الإقليمية والحفاظ على مصالحها في المنطقة، وبالتالي، فقد أكد الرئيس عبدالفتاح السيسي، خلال الاجتماعات المصرية- الأوروبية بالقاهرة، ضرورة اضطلاع المجتمع الدولي بمسئولياته في الدفع تجاه الوقف الفوري لإطلاق النار، وإدخال المساعدات بكميات كافية إلى القطاع لحمايته من الكارثة الإنسانية التي يتعرض لها، وحذر من أن أي عمليات عسكرية في مدينة رفح الفلسطينية ستكون لها تداعياتها الجسيمة على أمن المنطقة ككل، وشدد على ضرورة الالتزام بمسار حل الدولتين.
خلال الفترة الممتدة من السابع من أكتوبر الماضي وحتى اليوم شهدت العلاقات المصرية- الأوروبية سلسلة من المباحثات بين المسئولين المصريين ونظرائهم الأوروبيين، حيث تمت مباحثات شديدة الأهمية بين الرئيس عبدالفتاح السيسي وعدد من الزعماء الأوروبيين، مثل المستشار الألماني والرئيس الفرنسي ورئيسة المفوضية الأوروبية ورئيسى وزراء بلجيكا وإسبانيا، بالإضافة إلى العديد من المباحثات المباشرة والهاتفية الأخرى.. تميزت هذه المباحثات بنجاح مصر في بناء توافقات مع القادة الأوروبيين حول قضايا مهمة، سواء على صعيد القضية الفلسطينية أو التطورات في المنطقة، خصوصًا التوافق على رفض العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة، والدعوة لوقف إطلاق النار، وزيادة المساعدات الإنسانية إلى القطاع، إضافة إلى التأكيد على ضرورة استعادة مسار السلام وإقامة دولة فلسطينية مستقلة.. وكانت المواقف المصرية- الأوروبية واضحة وتشهد توافقًا كبيرًا، خصوصًا فيما يتعلق برفض توسع رقعة الحرب، ودعم جهود التسوية السياسية في دول الأزمات، إلى جانب رفض أي تهديدات للأمن الإقليمي.
كان مشهد الوفد الأوروبي الموسع بالقاهرة دالًا.. اجتماعات تعكس عمق العلاقات المصرية مع الاتحاد الأوروبي، وإيطاليا، واليونان، وبلجيكا، وقبرص، والنمسا، على مختلف الأصعدة: سياسيًا، واقتصاديًا، وتجاريًا، وثقافيًا، حيث تم التوقيع على الإعلان السياسي بين مصر والاتحاد الأوروبي لترفيع العلاقات إلى مستوى (الشراكة الشاملة والاستراتيجية)، الذي قال عنه الرئيس السيسي إنه يعكس عمق العلاقات المصرية- الأوروبية الممتدة عبر التاريخ، وحالة الزخم التي تشهدها العلاقات خلال الفترة الأخيرة على مختلف الأصعدة السياسية، والاقتصادية، والثقافية، وفق أساس من الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.. في وقت أولت فيه مصر دومًا أهمية خاصة للعلاقات المتميزة التي تربطها بالاتحاد الأوروبي ودوله، في ضوء اعتقاد مصر الراسخ بمحورية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، لتحقيق المصالح السياسية والاقتصادية والأمنية المشتركة للجانبين، وبما يدعم تحقيق الأمن والسلام والاستقرار في المنطقة.. وخلال القمة كشف الاتحاد الأوروبي عن حزمة مساعدات لمصر بنحو 7.4 مليار يورو- أكثر من ثمانية مليارات دولار- تتضمن خمسة مليارات يورو قروضًا ميسرة، و1.8 مليار يورو استثمارات إضافية، في إطار الخطة الاقتصادية والاستثمارية للجوار الجنوبي، بالإضافة إلى ستمائة مليون يورو مِنحًا، منها مائتا مليون يورو لإدارة الهجرة.
إذن، شهدت القاهرة فعاليات القمة المصرية- الأوروبية، وعقد الرئيس السيسي لقاءات ثنائية منفصلة مع كل من القادة، تم خلالها مناقشة أوجه التعاون الاقتصادي والاستثماري، وكيفية بلورة خطوات محددة، بما يضمن الاستفادة من المزايا النسبية لكلا الطرفين بالشكل الأمثل.. تناولت اللقاءات التعاون في مجالات توطين الصناعة، ونقل التكنولوجيا والتدريب، والتعاون في مجال الطاقة، خصوصًا إنتاج الغاز الطبيعي، والتعاون المصري- القبرصي في هذا المجال، فضلًا عن الاستفادة من الفرص الواعدة التي تقدمها مصر في مجالات الطاقة النظيفة والهيدروجين الأخضر، والعديد من مشروعات التعاون القائمة والجاري دراستها مع اليونان وبلجيكا والنمسا، بعد أن تم التوافق على إقامة شراكة بين مصر وإيطاليا في إطار المشروعات القومية الكبرى، بحيث يتم نقل التكنولوجيا الإيطالية المتطورة لمصر في تلك المجالات، بما يعظم العائد ويزيد الصادرات الزراعية والغذائية المصرية لأوروبا.. وهذا هو الأهم.
لكن.. ماذا يعني ترفيع العلاقات بين مصر وأوروبا لـ"شراكة استراتيجية"؟.
عدّ خبراء أن ترفيع العلاقات بمثابة خطوة مهمة تستهدف "دعم مصر في مواجهة التحديات السياسية والاقتصادية"، مشيرين إلى حزمة تمويلية أوروبية إلى القاهرة أعلنت عنها رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، بقيمة 7.4 مليار يورو، تتوزع على مدى السنوات المقبلة.. ونقلت ؛وكالة الصحافة الفرنسية" عن مسئول أوروبي قوله إن "الاتفاقات تندرج في إطار شراكة استراتيجية وشاملة بين الاتحاد الأوروبي ومصر، البلد المهم بالنسبة لأوروبا اليوم، وفي المستقبل.. لأن هذا البلد العربي المهم يقع وسط جيرة صعبة بين ليبيا والسودان وقطاع غزة".. وإذا كان ترفيع العلاقات إلى مستوى "الشراكة الاستراتيجية" يأتي في وقت تواجه فيه مصر تحديات سياسية واقتصادية عدة، تستوجب الدعم الأوروبي لمساعدة القاهرة على مواجهة الأزمة الاقتصادية الحالية، ومشاركة الخطط والطموحات والأفكار المستقبلية، فإنه من المهم توضيح أن أوروبا أكبر جهة تقدم مساعدات إلى مصر، كما أن ما يأتي من أوروبا يكون في صورة منح.. حتى القروض التي تقدمها بعض الدول الأوروبية، هناك إمكانية لمبادلة الديون بمشروعات استثمارية، وذلك لم يأت من فراغ، بل إنه، و"في ظل الأحداث الأخيرة، ودور مصر في وباء كورونا، والأزمة الأوكرانية، وأزمات المنطقة برمتها، برز دور القاهرة بصفتها فاعلًا أساسيًا لحفظ الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة".
■■ وبعد..
فإن مصر لا تسعى للأضواء أو الأدوار، بل الأدوار هي التي تسعى إليها، بناءً على جغرافيتها وتاريخها وقوة تأثيراتها السياسية، وقدرتها على التعامل مع العديد من الملفات، لأن مصر هي الدولة الوحيدة التي ستظل قوية ومتماسكة رغم التحديات التي تواجهها من كافة الجهات.. "عندما تزور رئيسة المفوضية الأوروبية القاهرة، تدرك أهمية الدور الحيوي الذي تلعبه، حيث تعتبر القاهرة محورًا أساسيًا للاستقرار، وتلعب دورًا حاسمًا وفاعلًا في العديد من القضايا، مثل القضية الفلسطينية وجهودها الإغاثية الهامة، وخبرتها وقدرتها في إيجاد حلول سياسية واضحة، وفهمها التاريخي لأبعاد القضية الفلسطينية".
زيارة رئيسة المفوضية الأوروبية وإن جاءت للإعلان عن دعم مالي لمصر بعدة مليارات دولار، لكن الهدف الرئيسي من زيارتها هو التنسيق بين مصر والاتحاد الأوروبي لمواجهة الأحداث في قطاع غزة، وتلبية المطالب العربية والمصرية والأوروبية بتحقيق الهدنة، والبدء في إطلاق سراح الأسرى.. هذه المسألة ليست مسألة محدودة بعدد معين، والأطفال مقابل الأطفال وغيره، بل تتعلق بمسألة إنسانية عامة، فالمساعي المصرية لتعزيز التنسيق مع الاتحاد الأوروبي تعزز العلاقات المصرية- الأوروبية، وتؤكد وجود الأوروبيين لإيجاد حل في هذا الوقت الحرج.. يجب أن ندرك أن الأزمة هيكلية ومفصلية، وتحتاج إلى مراجعة وجهود مشتركة ومتعددة في هذا السياق، وزيارة رئيسة المفوضية الأوروبية لإعلان الدعم لمصر فإنها تأتي أيضًا ضمن سياقين: الأول هو الحرص على التواجد في الأزمة الحالية بطبيعتها ومراحلها، والسياق الثاني هو حث الحكومات الأوروبية على ممارسة الضغوط على إسرائيل لوقف التصعيد واستمرار الحرب، فالأوروبيون يتحولون من مواقف داعمة لإسرائيل إلى مواقف أكثر حزمًا.. الأمر يتغير، وهناك احتجاجات وضغوطات شعبية في الدول الأوروبية للتأثير في قرارات حكوماتهم، وفي هذا الوقت يواجه الاتحاد الأوروبي تحديات، ولديه نظرة مختلفة في التعامل مع الأزمة في هذا التوقيت.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.