رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

استدعاء محمود درويش قبل الإفطار

يحدث عادة فى شهر رمضان الكريم البحث فى الدفاتر القديمة والتقليب فى الأوراق الموجودة فى ركن بعيد، يحدث هذا فى الوقت الذى يحاول الواحد فيه استغلال وقت ما قبل الإفطار لترتيب فوضى عام كامل، فى مكتبة البيت التى تبحث منذ سنوات عن بيت آخر تعيش فيه، الأحداث الدامية فى فلسطين المحتلة ومشاهدة المذابح التى يرتكبها الاحتلال ضد أهلنا فى غزة والضفة، مشاهدتها وهى تحدث على الهواء مباشرة والعالم المتحضر يشاهد أيضًا وكأن الأمر لا يعنيه، هذه الأحداث أطفأت مصابيح كثيرة فى أرواحنا، فى كل عدوان يحدث أتذكر الشاعر الكبير الراحل محمود درويش «١٣ مارس ١٩٤١- ٩ أغسطس ٢٠٠٨»، والذى أسعدنى زمانى وتعرفت إليه عن قرب، وأحببته وأحببت شعره وحفظته، رغم أننى لا أحسب من تلاميذ مدرسته الفريدة فى القنص، درويش الذى قال: «نفعل ما يفعل السجناء.. وما يفعل العاطلون عن العمل.. نربى الأمل»، وقع تحت يدى تفريغ لمقابلة تليفزيونية أجراها معه نبيل عمرو فى ٢٠٠٣ شارك فيها كثيرون من بيروت ودمشق ورام الله، حوارات درويش فى الغالب قليلة وردوده دبلوماسية، فى هذه المقابلة تحدث عن مصر وعن السنوات الثلاث التى عاشها فيها وعن معناها وقوتها ورموزها بمحبة كبيرة، القاهرة، كما قال، كانت المدينة الأكبر والأعظم فى حياته: «رأيت فيها مدينة تتكلم العربية وأسماء شوارعها بالعربية، ورأيت طبعًا آثارها المعمارية والتاريخية وحيويتها، وفوق هذا بالنسبة لى الانخراط المبكرـ وأنا شاب صغير دون الثلاثين- فى علاقة صداقة وزمالة مع كبار أدباء وكتاب مصر، الذين قرأت لهم فى طفولتى، وجدتهم أمامى»، عمل محمود درويش فى مؤسسة «الأهرام» وكان فى غرفة واحدة فى البرج «كما نطلق عليه» مع العملاقين نجيب محفوظ ويوسف إدريس وبنت الشاطئ، وفى الغرفة المجاورة المفتوحة دائمًا يجلس توفيق الحكيم ولويس عوض وعدد آخر من رموز مصر فى الطابق الأسفل، لحسن حظى أننى جلست فى هذا البرج سبع سنوات أثناء عملى بـ«الأهرام»، وما زال لى مكتب فيه، وأشعر وأنا أتنقل بين الغرف بأن الأرواح العظيمة التى يتحدث عنها شاعر فلسطين الكبير موجودة فى مكان ما وأنها حزينة على ما آلت إليه الأمور، يقول درويش: «القارئ الذى كنته وجد نفسه فى حضرة كاتبه وكتابه المفضلين»، واعتبر هذه التجربة التى بدأت سنة ١٩٧٠ أغنى تجربة ثقافية فى حياته، قال له لويس عوض: «جئتنا فى وقت الشقاء»، لأن مصر أيامها كانت حزينة ومتوترة بسبب الهزيمة ولم ينقشع الضباب إلا بعد النصر المبين فى ١٩٧٣، ربطته صداقة قوية بشعراء مصر الكبار، أحمد عبدالمعطى حجازى وصلاح عبدالصبور وعبدالرحمن الأبنودى وأمل دنقل، قال عن صاحب «مأساة الحلاج» إنه من شعراء الحداثة الأوائل فى مصر، وإنه كان مشغولًا بهاجس الشكل الشعرى دائمًا، وكيفية تطوير القصيدة العربية، والوصول بها إلى حد التقشف البلاغى، ويعتقد «درويش» أن مسرحياته أسهمت فى انتشاره، وفيها زواج بين الإبداع الشعرى والرؤية الفلسفية للعالم، وتحدث أيضًا عن محبته لشاعر «مدينة بلا قلب»، الذى اعتبره أجزل شعراء العرب لغة، وأكثر ارتباطًا من صاحب «أقول لكم» بقضايا العالم العربى اليومية، أما أمل دنقل، من وجهة نظره، فهو الحل الوسط بين عبدالصبور وحجازى، ومن المؤسف أن مشروعه الشعرى لم يكتمل بسبب وفاته المبكرة، ولكنه كتب على سرير المرض أجمل ما كُتب فى الشعر العربى الحديث، «درويش» لا يحب تسمية عبدالرحمن الأبنودى بشاعر العامية، لأن طريقة بناء نصه الشعرى حديثة جدًا ولا تختلف عن الفصحى، وهو صاحب حساسية مفرطة وتشغله فى الوقت نفسه هموم الشكل وبنية القصيدة، صاحب «لماذا تركت الحصان وحيدًا؟»، كان يقول يجب أن يعرف القراء، والشعراء أيضًا، خاصة الشباب، أن الشعر رهان لا ضمانة له، أنت لا تستطيع أن تتأكد بأنك ستكتب قصيدة أخرى، لا توجد ضمانة، وبالتالى، هذا السر الشيطانى الذى اسمه الشعر، لا أحد يعرفه، يستعصى على التعريف، لا نعرف حتى الآن ما هو، كما لا نعرف ما هو الحب، ولكن الشعر موجود والحب موجود، وتقريبًا هو رأى الأرجنتينى العظيم بورخيس، الذى تحدث عن لغز الشعر، الشعر الذى نعرفه ولا نستطيع تعريفه، تمامًا مثل عجزنا عن تعريف مذاق القهوة أو اللون الأحمر أو الكراهية أو حب بلادنا.