رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فنوننا البديعة .. وقطوف فضاء الإبداع الرمضاني ( 2)

دعاني صديقي لأكل القطائف
فأمعنت فيها أكلاً غير خائف
فقال وقد أوجعت بالأكل قلبه
رويدك مهلاً فهي إحدى المتالف
فقلت له ما سمعنا بهالك
ينادى يا قتيل القطائف
هات القطائف لي هنا
حببها لنا
قد كان يأكلها أبي
وأخي وأكرهها أنا
لكنني منذ ذقتها
ذقت السعادة والمنى
قال القطائف للكنافة ما
بالى أراك رقيقة الجسد
أنا بالقلوب حلاوتي حشيت
فتقطعي من كثرة الحسد
( من كتاب اللطائف فى الكنافة والقطائف)
لعل من الطريف استهلال الجزء الثاني من مقالي ( قطوف رمضانية في فضاء الإبداع ) بأبيات من كتاب اللطائف في الكنافة والقطائف كما كان مفتتح الكلام في الجزء الأول للتذكير بحالة الإلهام لأهل الفنون والإبداع التي تدفع بتجلياتها أجواء الشهر الفضيل فتتجسد أشعارًا ورسومًا وروايات وقصصًا وطرائف تنشر نسائم روحية بديعة وأجواء من البهجة بألوان فرح الصائم بصيامه ..
وفي هذا السياق أتفق مع رؤية الفنان والناقد المبدع صلاح بيصار لتطور تناول الفنانين شهر رمضان تشكيليًا ، يقول : " يتميز رمضان عن غيره من شهور العام بأنه الأغنى روحيًا وفنيًا " ، مستعرضًا تجارب تشكيلية بعينها مع رمضان ، مثل ما كان من إبداع الفنان علي دسوقي الذي قدم لوحتي " موكب رؤية هلال رمضان " و" الأطفال والفوانيس " بالحارة القاهرية ذات الروح الفاطمية ، وكذلك ما كان من إبداع الفنان جورج البهجوري الذي جسد في أعماله مائدة الرحمن والمقهى الشعبي في رمضان ، فقد كان البهجوري يحضر خصيصًا من باريس إلى مصر لقضاء شهر رمضان مع أصدقائه المبدعين مثل بهاء طاهر وآخرين ..
لقد عبر الفنان محسن أبو العزم عن أبعاد بعض المهن الرمضانية الخالصة ، التي تشتهر بها الأحياء الشعبية في مصر مثل " المسحراتي " بكلماته الشهيرة التقليدية وهو يطوف ليلًا يضرب طبلته صادحًا : " أصحى يانايم وحد الدايم " ،  كما رسم بنات بحري وبائع العرقسوس من وحي لوحة " المدينة " للرائد محمود سعيد ، وتبدو لوحة أبو العزم بروح كاريكاتيرية باسمة لثلاث فتيات مع بائع العرقسوس الذى يقوم بتقديم المشروب الشعبي الشهير لهن مع ابتسامة على وجهه . .
معلوم أن الفن مثله مثل كل الأنشطة الإنسانية الأخرى يساهم في التحريك الإيجابي والفاعل لقوى الإنسان التي قد تكون قد تيبست وأصابها الجمود بفعل أي فترة من فترات التراجع الحضاري أو المرور بفترات انقطاع معرفي وثقافي ..
ولاشك أن إبداع العمل الفني في النهاية يمثل الإعلان عن وجود كيان له وجود خاص متفرد و ممهور بتوقيع مُبدعه الفنان .. ورغم حالة الملكية الخاصة للعمل الفني بدرجة من التفرد والخصوصية ، فهو يضيف لمجتمع الفنان بحيث يمكن الاستمتاع والاستفادة بالمثيرات الملهمة للعمل والبناء عليها ، أو حتى الرفض إلى حد التسفيه والاستبعاد !
ولعل أجمل وأروع أدوار الفنون في حياتنا يتمثل في قدرتها على كسر حالة الثبات والتقوقع والسكون المميت للموجودات من حولنا ، والتعامل بالتغيير أو التشكيل أو التفاعل من جديد لحالة التماهي والذوبان التقليدي في دوائر محيطة ..
على مر الأزمان كان الدين محفزًا رائعًا على الابداع والتجلي في شتى مجالات الفنون ، وكان للفنان التشكيلي خير معين لا ينضب من الالهام ، حتى بات لدينا الكثير من الإبداعات الفنية التي أبحرت بين معتقداتنا الدينية وطقوسنا الشعبية واخذت تتدرج بين ما هو فطري وما هو ممزوج بتسابيح إيمانية عميقة مما رسخ في اذهان ذوي الرؤى الفنية اٍن الدين كما نفخ الروح في كثير من الفنون العظيمة فقد وهب تلك الروح للفن التشكيلي المحلي والعالمي أيضًا .. 
وقد بات شهر رمضان الكريم بما يحمل بين طياته من طقوس عبادات وأشكال عادات ومعتقدات من أهم محفزات الابداع لدى الفنانين التشكيليين من شتى بقاع الارض ..
نعم ، فقد كان المستشرقون أول من جذبتهم مظاهر الشهر الكريم ، فصاغوا مفرداتها الأبرز ليرصدوا من المظاهر والأشكال ذات الطابع الاحتفالي التي لفتت نظرهم ، ومنهم الرسام " جان ليوم جيروم " الذي قدم لوحة بعنوان " الصلاة في المسجد " ، جسد خلالها مجموعة من المصلين داخل مسجد عمرو بن العاص في أحد الليالي الرمضانية ..
كما قدم الفنان الأمريكي " لويس كومفورت تيفاني " لوحة تظهر فيها قلعة ومسجد محمد علي من الخارج وحولهما عدد من القباب والمآذن الخاصة ببعض المساجد المحيطة بمنطقة القلعة ..
أما الفنان الإيطالي " البرتو باسيني " فقدم لوحة لسبيل وكتاب رقية دودو بشارع سوق السلاح بالقاهرة ، ويعتبر ثالث سبيل في العصر العثماني تم بناؤه لامرأة ..
ومن أهل الإبداع الرواد  قدم الفنان والقاضي المبدع " محمود سعيد " لوحته الشهيرة التى تحمل عنوان " الصلاة " رسمها عام 1934 ، وحيث إنه رصد صور للعديد من المصليين وهم في حالة خشوع ..
أما الفنان المبدع " وجيه يسى " صاحب الأداء المتفرد في صياغة مفردات صناعة البهجة بألوانه الصريحة والفرشاة التي تتحرك بديناميكية بديعة على سطح اللوحة بتوافق مع تكنيكات ورقة وتغريد إبداع أهل المدرسة التأثيرية ، فيقدم مؤخرًا لوحة للكنفاني وهو يدور بنا وبخيوط الكنافة بأداء وألوان منتجة ومحفزة لاكتساب المتلقي طاقة إيجابية بديعة .. 
ومن طرائف الأيام الرمضانية يروي الدكتور محمد فؤاد شاكر أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة عين شمس عن ذكرياته في رمضان قائلًا : في بداية شبابي تمت دعوتي في شهر رمضان لافتتاح مسجد أقامته القوات المسلحة وكنت أيامها ارتدي الثياب الشبابية , وأضع علي رأسي طاقية وحدثت بعض الظروف التي حالت دون أن أصل إلي المسجد مبكرًا كعادتي ووصلت بعد أن رفع الأذان الأول وهو ما يحتم علي أن أصعد إلي المنبر بمجرد دخولي المسجد , وما إن بدأت الصعود حتى فوجئت برجل يهرول ورائي ويشدني طالبًا مني النزول وهو يقول لي : كيف تفعل ذلك ونحن في انتظار الشيخ محمد فؤاد شاكر ؟ فما كان من العميد الذي قام بدعوتي إلا أن قام مسرعًا ووضع يده علي فم هذا الرجل وهو يقول له إنه الشيخ فؤاد شاكر فنظر لي الرجل متعجبًا أن أكون شيخًا وأرتدي ما أرتديه من ملابس شبابية