رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أبواب القرآن (3).. الشروط الخمسة للمفسر العصرى

محمد الباز
محمد الباز

- نحن الآن فى حاجة شديدة إلى أن تخرج مصر- والعالم الإسلامى عمومًا- من فتوى الفرد إلى فتوى الدولة

- هدايات الناس ومراعاة أحوالهم ومعرفة متى أترك شيئًا ومتى أهتم به من ضروريات المفسرين

- الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فقه دولة ويجب ألا يتحدث فيها أى عابر

توقفنا فى حديثنا عن أبواب القرآن عند سؤال مهم عن مواصفات من يتصدى للتفسير، ففى تراثنا تظهر أسماء كثيرة لمفسرين كبار مثل الطبرى والقرطبى، وعبر العصور المتعاقبة ظهرت أسماء عديدة، حتى وصلنا إلى العصر الحالى الذى لدينا فيه أيضًا مفسرون كُثر، لكل منهم عطاؤه، وكل منهم له ما له وعليه ما عليه. 

■ الباز: هل هناك مواصفات معينة لمن يتصدى لتفسير القرآن؟ 

- أبوعاصى: فى الكتب الكلاسيكية القديمة مثل «الإتقان» للسيوطى و«البرهان» للزركشى نجد ١٢ شرطًا يجب أن تتوافر لمن يتصدى للتفسير، منها إتقانه علوم اللغة والبيان والبديع والنحو والصرف وعلوم القرآن والحديث، وظل هذا النمط مستمرًا حتى وصلنا إلى الإمام فى اللغة، محمد عبده. 

■ الباز: هل وضع شروطًا جديدة لمن يتصدى للتفسير؟ 

- أبوعاصى: لم يضع شروطًا جديدة، بل دمج القديمة فى ٥ شروط فقط، أولها أن يكون المفسر عالمًا بمفردات القرآن، وقال: لا بد أن يعرف مفردات القرآن من خلال اللغة، والأفضل أن يبحث عن المفردة القرآنية فى معناها من داخل القرآن، فالسياق يحدد المعنى المراد. 

فالكلمة قد يكون لها معنى فى اللغة، لكن عندما تأتى فى سياق قرآنى ما يكون لها معنى آخر، مثلًا كلمة «القارعة» معناها اللغوى الضرب، لكن فى السياق القرآنى «القارعة ما القارعة» معناها القيامة. 

فالإمام محمد عبده قال بضرورة البحث عن الكلمات القرآنية فى معاجم اللغة، والأفضل البحث عنها داخل البنية القرآنية، فيكون للسياق دخل فى فهم المعنى، وهنا يكون تفسير القرآن بالقرآن. 

■ الباز: هذا عن الشرط الأول.. فماذا عن الشرط الثانى؟ 

- أبوعاصى: الشرط الثانى أن يفهم المفسر أساليب القرآن، وهذه أخذها من القدامى، فالمعنى السطحى للكلمة يمكن أن يدركه الجميع، لكن المعنى الكامن لا، وهو المعنى الذى يأتى من وراء اللفظ، وقد عبّر عنه عبدالقادر الجرجانى بتوصيفه بمعنى المعنى. 

يعنى مثلًا عندما نقرأ «إياك نعبد وإياك نستعين»، يفهمها الإنسان على أننا نتوجه إلى الله بالعبادة، لكن يمكن أن يأتى آخر يفهم الأساليب، فيقول: لماذا «إياك نعبد» ولم يقل «نعبد إياك»؟، ولماذا قال «إياك نستعين» ولم يقل «نستعين إياك»؟، ولماذا قدم العبادة على الاستعانة مع أن المنطق يقول إنك تطلب الاستعانة حتى تعبد؟ 

صاحب علم المعانى هنا يقول إن الله قدم العبادة على الاستعانة لأنه يريد أن يقول لك أعلن عن عبوديتك تأتيك الاستعانة، فإذا أعلنت وعزمت على عبادة الله مد الله لك يد العون. 

خذ عندك أيضًا مثالًا آخر، فالله قال «لا ريب فيه»، المفسرون يقولون «لا ريب» معناها «لا شك»، وقد تسأل: ولماذا لا يقول «لا شك» فيه؟ 

يقول المحققون هنا إن الريب شك يصحبه قلق واضطراب، ولذلك قال القرآن «لا ريب» ليؤكد أن القرآن لا شك فيه، ومن يقرأه لا يعتريه القلق أو الاضطراب، ومعنى ذلك أن من يترجم المعانى الكامنة يحتاج لمعرفة الأساليب. 

■ الباز: هل كان للإمام محمد عبده إضافته الخاصة، أم قام بدمج الشروط السابقة فقط؟ 

- أبوعاصى: كانت له إضافته الخاصة بالطبع، فالشرط الثالث الذى وضعه هو ضرورة معرفة المفسر بأحوال البشر، وهو ما لم يقل به أحد من قبله. 

■ الباز: ما الذى يقصده بمعرفة أحوال البشر؟ 

- أبوعاصى: يعنى لا بد أن يعرف المفسر الحالة الاجتماعية للمجتمع الذى سيقدم له تفسيره، فقد اتفقنا أن القرآن جاء لمصلحة الناس، وحتى تتحقق المصلحة فلا بد من معرفة أحوال الناس. 

■ الباز: طبقًا لهذه الرؤية، فهل يمكن أن يكون هناك تفسير لآية فى الشرق هنا وتفسير مختلف لنفس الآية فى الغرب؟ 

- أبوعاصى: هذا يجوز بلا شك، فالقرآن عام مرن، ومرونته أن الدلالة اللغوية للكلمات يمكن أن تعطيك أكثر من معنى، وقد يكون هناك معنى يناسب الناس فى الوطن العربى، ومعنى آخر يناسب الناس فى الغرب، بشرط أن تكون بنية النص القرآنى تحتمل المعنيين، وألا يكون بينهما تناقض. 

■ الباز: دعنى أسألك على هامش هذه الرؤية، فقد يكون هناك أكثر من تفسير للآية، فهل من حق المفسر أن ينتقى تفسيرًا واحدًا منها؟ 

- أبوعاصى: هذا جائز بالطبع، فيمكن للمفسر أن ينتقى معنى يناسب بيئة معينة، ولا يذكر المعنى الثانى الذى لا يناسبها، لأن فى هذا مصلحة الناس. 

■ الباز: يحضرنى هنا الفقيه الذى أفتى لاثنين وقع كل منهما على زوجته فى رمضان بحكمين مختلفين، على الغنى بالصيام وعلى الفقير بإطعام ٦٠ مسكينًا.. حتى تكون العقوبة رادعة. 

- أبوعاصى: هذا مثال صحيح، ويمكن أن نعطى مثالًا حديثًا، يمكن أن يأتى اثنان، أحدهما قال لزوجته أنت طالق بإرادته واختياره وهو رجل ظالم ومفترٍ، والثانى دخل فى مشكلة عائلية كبيرة وضغطت زوجته على أعصابه فخرج عن طبعه وقال لها أنت طالق، يجوز لك بعد أن تعرف أحوال الناس أن تقول للأول طلاقك يقع، وتقول للثانى الطلاق لا يقع لأنه كان فى حالة غضب. 

الفقيه هنا لا بد أن يختار ما يناسب الحالة أو البيئة التى يعيش فيها، والمفسر من حقه أن ينتقى طالما أن النص يحتمل، وإذا كانت للآية عدة معانٍ فالأفضل أن يسوق المفسر المعنى الذى يتناسب مع البيئة التى يتحدث فيها. 

فعلى سبيل المثال لو أنا فى بيئة يسلم فيها الرجل على المرأة بشكل عادى، هنا أقول له مذهب أبى حنيفة إن لمس المرأة لا ينقض الوضوء، ولا نلتفت إلى الآخرين الذى يفسرون «أو لامستم النساء» بأنه أى لمس للمرأة ينقض الوضوء، فأبوحنيفة يفسر «لامستم» بالعلاقة الحميمة بين الرجل والمرأة، فى حين يرى الشافعى أن اللمس المقصود يحدث بمجرد الجس باليد، هنا يمكن ألا نتحدث بتفسير الشافعى ونغلّب تفسير أبى حنيفة. 

وعندما يأتى أحدهم ليفسر آية «وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس» وتجده يقول إنه لو قتل مسلم واحدًا من أهل الكتاب أو قتل واحدًا غير مسلم، فلا قصاص عليه، وهو تفسير مغلوط، ومن حق المفسر أن يبتعد عن مذهب الجمهور أو الشافعية أو المالكية، وينظر فى الظرف التاريخى والمكان الذى يُقال فيه الكلام، ومن المنطق أن نتخير من كتب التفسير أو نبدع رأيًا يتناسب مع العصر. 

■ الباز: هناك بعض الفقهاء والمفسرين لا يعرض على الناس الرأى الذى يناسب العصر، ولكنه يعرض على الناس كل الآراء الفقهية ويتركهم ليختاروا من بينها، بحجة أنه لا يريد أن يمارس وصاية على الناس، هل هذا المنهج مناسب؟ 

- أبوعاصى: هذا المنهج تترتب عليه مخاطر كثيرة، منها أنك تجعل المجتمع يعيش فى تضارب، فالأصل فى الفتوى أنك تريد توحيد الثقافة الدينية قد الإمكان، فعندما يأتى فقيه ويقول إن المسلم يقتل بالذمى ويأتى فقيه آخر ويقول لا يقتل به، فلو جاء متطرف وقال: أنا أخذت برأى الشافعية والمالكية والحنابلة، وذهب ليرتكب هذه الجريمة بناء على أن الآراء متعددة، لكن من المهم أن تكون هنا فتوى ملزمة. 

■ الباز: ومن يكون صاحب هذه الفتوى الملزمة؟ 

- أبوعاصى: نحن الآن فى حاجة شديدة إلى أن تخرج مصر- والعالم الإسلامى عمومًا- من فتوى الفرد إلى فتوى الدولة، نخرج من فقه الفرد إلى فقه الدولة، لا بد أن نعلن عن أن هناك قضايا خاصة بالدولة، قضية الجهاد قضية دولة، متى نحارب أو لا نحارب قضية دولة، ختان المرأة قضية دولة، الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر قضية دولة، فلا يجب أن يأتى صبى صغير ويقول هذا منكر وأنا أحاربه. 

■ الباز: لقد فعلوا ذلك بالفعل عندما حرقوا المحلات وكسروا الفنادق بحجة محاربة المنكر. 

- أبوعاصى: الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أولًا وأخيرًا فقه دولة، ويجب ألا يتحدث فيها أى عابر، ولا يجوز لأى واعظ أو داعية أو مفتٍ أن يخرج عن فقه الدولة، لأن القاعدة تقول إن حكم الحاكم فى الأمور الخلافية يرفع الخلاف، وما دام الحاكم اختار رأيًا، فلا بد أن تتبع الدولة هذا الرأى. 

■ الباز: دعنا نعود مرة أخرى إلى مسألة تعدد الآراء فى الآية الواحدة، أو فى القضية الواحدة. 

- أبوعاصى: عندما أقول للناس كل الآراء، تترتب على ذلك مخاطر عديدة، فهناك أمور فى الكتب التراثية لا تناسب العصر الذى نعيشه، فيأخذها المتطرف الإرهابى ويقول لك إن الرأى موجود، وأنت قلت لنا اختاروا ما يناسبكم وتركت لنا الحرية الفقهية، الأمر الثانى أن ذلك يجعلنا نقع فى حيرة وبلبلة. 

على سبيل المثال لو واحد قال لزوجته «عليا الطلاق»، هذه فيها ١٢ قولًا، فيكون السائل مهندسًا أو طبيبًا أو محاسبًا، وأقول له تفرغ وادرس الـ١٢ قولًا واختر منها، لا توجد قضية فى الفقه ليست خلافية، وللدقة ٩٥ بالمائة من القضايا خلافية، هذا إذا اقتصرت على المذاهب الأربعة، فما بالك لو اعتمدنا على المذاهب الأخرى وآراء الفقهاء الآخرين، سنجد اتساعًا كبيرًا فى هذه القضايا، والحل فى الفتوى الجماعية أو فتوى الدولة لأنها قادرة على منع البلبلة. 

■ الباز: أنت تنحاز إلى أن يكون للدولة فقهها، لأن هذا يعفينا من الخطأ ويحمينا من الاضطراب، لكن هناك من يرفض أن يكون هناك رأى واحد، لأن اختلاف الأئمة رحمة. 

- أبوعاصى: الرأى الواحد الذى أقصده هو أنك عندما تسألنى فأنا أبحث الحالة وأرى حال البلد الذى أعيش فيه، فأنا مثلًا عندما أسافر إلى بعض البلاد، ويأتى الطلاب ليسألونى فى قضايا خلافية، أقول لهم: أنا هنا لست مفتيًا، ارجع إلى أهل بلدك لأنهم أدرى بأحوالكم، لأننى لو تحدثت معهم وكان فيما أقول أمر ليس لديهم، فيمكن أن تحدث بلبلة. 

وفى مسألة إخراج زكاة الفطر مثلًا، الجماعة المتسلفة تقول لا بد أن تكون من الحبوب كما فعل النبى، بينما أبوحنيفة وغيره يقولون: يمكن أن تخرج بالقيمة لأنها الأنفع للفقير، ويناسب ذلك الحالة الاجتماعية للناس الآن، وعندما تقول لى الآراء المختلفة فى هذه المسألة يمكن أن يحدث أمر غير مناسب، وفى القضايا الخطيرة يمكن أن تترتب على تباين الآراء جرائم. 

■ الباز: نصل إلى الشرط الرابع الذى وضعه الإمام محمد عبده للمفسر. 

- أبوعاصى: الشرط الرابع هو علم المفسر بهدايات القرآن، يرى محمد عبده أن القرآن جاء فى مجتمع جاهلى فيه عادات كفر ونفاق وزندقة، فكيف هدى القرآن الناس؟ ما الأساليب التى استخدمها لهداية هؤلاء؟ وعلى المفسر أن يراعى فى تفسيره إظهار كيف هدى القرآن الناس وكيف تعامل مع الكفار والعصاة، وأعتقد أن هذا شرط أساسى. 

لكن للأسف الشديد معرفة المفسرين بأحوال البشر وبهدايات القرآن أمر لا يأخذ مساحات كبيرة فى الكتب الكلاسيكية، ربما الإمام الشاطبى مر عليه فى كتابه «الموافقات»، واستكمله محمد عبده، لكن ليس له حضور كبير الآن. 

■ الباز: هدايات القرآن.. أعتقد أن الأمر يحتاج إلى مزيد من الإيضاح. 

- أبوعاصى: هدايات الناس ومراعاة أحوالهم، ومعرفة متى أترك شيئًا ومتى أهتم به، من ضروريات المفسرين، وهذا يجرنا إلى قضية مهمة، ففى صدر الإسلام نزل تحريم الخمر بالتدريج، وتم تحريم الربا بالتدريج، بالصحابى الذى عاش فى عصر الرسول وصل فى النهاية لى الحكم، لكن الآن لو ذهبت إلى أوروبا مثلًا ووجدت أن الخمر شىء عادى ومعظم الناس تشربها بشكل عادى، هل فى هذه الحالة وأنا أدعو الناس للإسلام أتدرج معهم، أم أقول بالحكم النهائى؟ 

يعنى لو أترك معتنق الإسلام الجديد يشرب الخمر لفترة، ثم أسرد عليه التشريعات التى نزلت بالتدريج، أم أبدأ معه من النهاية فأقول له بمجرد أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله فالربا حرام والخمر حرام والزنا حرام والموسيقى حرام والأغانى حرام، كما يفعل بعض الدعاة والجماعات، والمشكلة أن من يدخل الإسلام يجد نفسه مكبلًا أمام قائمة عريضة من المحرمات فيبدأ فى الابتعاد عن الإسلام. 

■ الباز: أنت مع منهج التدرج فى شرح الإسلام إذن. 

- أبوعاصى: أنا أطرح الأمر كقضية عامة، تستحق النقاش حولها، فهل نحن الآن نقول بالتدرج عندما نعرض هدايات القرآن على الناس من غير المسلمين بناء على أن القرآن عرض هذه الهدايات، لكن تبقى المشكلة أن أحدهم يمكن أن يقول إننا يجب ألا نتجاوز الحكم النهائى، طالما أن الإسلام وصل إليه، ولذلك أنا لا أقول رأيًا قاطعًا، ولكن أطرح الأمر للنقاش. 

■ الباز: لن أسألك عن رأيك النهائى طالما تطرح الأمر للنقاش، لكن فى تقديرك ما هو الأصلح؟ 

- أبوعاصى: الأصلح هو التدرج بالطبع، فهو سُنة كونية مذكورة فى القرآن، ويسير هذا على الربا ويسير على الخمر، وخذ عندك مثلًا قضية شائعة فى الغرب، واحد متزوج امرأة، وفجأة تسلم المرأة وهو رافض الإسلام، هل فى هذه الحالة نقول لها أن تظل معه لفترة حتى يهتدى، أم نقول لها إن المرأة المسلمة لا يجب أن تبقى فى عصمة الرجل الكافر ولا بد من الانفصال؟ هذه قضية كبيرة وشائكة فى أوروبا ومثار جدل كبير، وإن كنت أميل إلى أن تظل تحت عصمة زوجها- كما يقول بعض الآراء- فيمكن أن يهتدى ويدخل الإسلام. 

■ الباز: يظل معنا الشرط الخامس ضمن الشروط التى يجب أن تتوافر فى المفسر، لكن اسمح لنا أن نبدأ به حديثًا جديدًا.