رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كتاب البيوت

«الكتاب بيبان من عنوانه» مثل شائع، وخادع فى كثير من الأحيان، الحس التجارى للناشرين يضلل القارئ العابر، القارئ الذى يريد أن يقرأ فى كتاب واحد ما فاته من معرفة، لكى يبدو ملمًا بالموضوع، فهناك من يصدر كتابًا عن تاريخ البشرية أو تاريخ الحروب أو أهم شخصيات مؤثرة فى التاريخ، أو أجمل قصائد الحب وأعظم الروايات والأفلام، وما إلى ذلك من الكتب التى يجلس كاتبها إلى جوجل لمدة أسبوع ليخرج على الناس بمجلد أنيق يشعرك بأنك أمام جهد جبار لعالم أو مجموعة علماء. هذه النوعية من الكتب رغم رواجها وسط بعض الشرائح لا تستهوينى بسبب تاريخى القديم معها ومع بعض منتجيها وناشريها، ولهذا السبب ترددت فى قراءة «كتاب البيوت» الصادر مؤخرًا عن دار «بعد البحر»، ولكنى اكتشفت وأنا أقلب صفحاته أننى كنت مخطئًا، وأن الكتاب الذى كتبه الإيطالى إندريا بيانى «مواليد ١٩٧٥» وترجمته عن الإيطالية روحية عبدالعزيز. هو عمل سردى يحمله الشعر، ويقدم شكلًا عبقريًا قادرًا على فتح نافذة جديدة للسرد بعيدًا عن النوافذ الراسخة التى يطل من خلالها الكتاب على القراء، الكاتب فى كل فصل يحدد تاريخًا يشير إلى قطعة من حياته، لم يلتزم بالتسلسل الزمنى، هو ينقل خبرات بسيطة يمتلك الجميع مثلها، لا توجد أسماء لشخصيات، هو يحكى حكاية رجل يدعى «أنا» الذى يتنقل من بيت لبيت ومن شقة لشقة، الشخصيات الرئيسية ببساطة هى «أخت، أب، أم، جدة، زوجة، طفلة، عائلة»، توجد قفزات داخل عوالم شجية، وفى الوقت نفسه تؤرخ للحياة اليومية فى إيطاليا منذ سبعينيات القرن الماضى، والتطور الذى حدث فى كل شىء، من جهاز التليفزيون الـ١٤ بوصة إلى الأحداث المثيرة التى مرت بها إيطاليا والتى شغلت العالم، مثل مقتل الشاعر بازولينى والعثور على جثته ممزقة، ومقتل السجين ألدومورو، إندريا بيانى لم يقدم عملًا تأريخيًا، وليس أيضًا عملًا صحفيًا، هو يقدم كتابة مفتوحة عابرة للأشكال، يريد أن يجرب اختبار شكل مختلف يبدو صحفيًا فى ظاهره، ولكنه قادر على استيعاب تجربة شاب على مشارف الخمسين كان ينتظر من العالم أن يكون أكثر رحمة، ولأن ذلك لم يحدث، تشبث بتفاصيل حياته وحياة المحيطين به، مستئنسًا بصوت باب الثلاجة وتقطيع الخضار فى المطبخ، وملامح وحركة «أب» و«أم»، و«جد»، ميلان كونديرا كتب فى «الحياة فى مكان آخر»، «أجاب اكزافية أن البيت الحقيقى ليس قفصًا بداخله طائر صغير ولا خزانة ملابس، ولكنه وجود الشخص الذى نحبه، ثم قال لها إنه هو نفسه ليس لديه بيت أو بالأحرى خطواته هى بيته فى ذهابه ورحلاته، وأن بيته يوجد حيث تظهر آفاقًا جديدة، وأنه يستطيع العيش بمفرده متنقلًا من حلم إلى آخر ومن منظر طبيعى إلى آخر». شعرت وأنا أقرأ هذا المقطع أنه مكتوب على لسانى، بحكم علاقتى بالبيوت الكثيرة التى تنقلت بينها فى القاهرة، القاهرة التى أعيش فيها منذ أربعين عامًا وقطعت شوارعها ولا أملك فيها بيتًا، وفى الوقت نفسه لا أعتبر نفسى فى مشكلة، الكتاب سيحبه الغرباء، لم يكتف بيانى بالتجوال فى البيوت التى تركت أثرًا فيه، ولكنه اخترع بيوتًا بلا جدران ومنحها سلطة البيت، ففى فصل يحمل عنوان «بيت الأبدية ٢٠١٠» يقول بيت الأبدية هو مبنى دائرى وله شكل وطبيعة خاتم الزواج، هو من أقدم الاكتشافات تقدمًا من الناحية التكنولوجية بصفته اكتشافًا معماريًا: يختفى فى كف اليد أو يمكن أن يظل فى الجيب، القياس الدقيق لبيت الأبدية الذى يسكنه «أنا» بسعادة هو إذن محيط دائرة: ٧٫٢٨ سنتيمتر على وجه الدقة، يبلغ قطره ٢٫٣٧ مليمتر، يزن أربعة جرامات وهو فارغ، وعندما يدخله «أنا»، يزن أربعة جرامات زائد سبعة وثمانين كيلو. 

فى «بيت القانون ٢٠١٨» مقطع يرتقى إلى منزلة الشعر، هو بعيد كل البعد عن منطق البناء، ليس بسبب ما يحتويه القانون فى حد ذاته من أشياء غير مادية، معدّل البيروقراطية والسلطة، أى على سبيل المثال لا الحصر، الأوراق والملفات واللغة المصابة بداء المفاصل والمفردات المجمعة فى صيغ مطبوعة والتأثير المنبه للأعصاب للأحكام التى تُنطق بصوت أحادى الطبقة وغير بشرى.. هو جزء لا يتجزأ من النسيج العمرانى للمدينة حتى إن بدا كأنه جسم سقط من الفضاء، إلى هنا انتقل بيت «عائلة» ليتلاشى بعد ذلك إلى الأبد، كتاب جميل وكتابة صادقة ومختلفة ولا تدعى أنها مختلفة، أخذنا الكاتب معه فى رحلة زرنا خلالها ٧٨ بيتًا.. لا تختلف كثيرًا عن بيوتنا التى فى الذاكرة.