رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هكذا أحببت الوطن

آن نظرت في عين السائح أحببت الوطن أضعاف ما كنت أحببته من قبل.. السائح عابر وأنا مقيم، محبة العابر لا يعول عليها إنما التعويل على محبة المقيم.. خجلت من نفسي حينها فعلا.. يقنت أنني أجهل وطني والغريب الذي يمر به يعلمه.. يقول جاهل هنا: لا يعاني الغريب ما يعانيه ابن البلد فلا عجب في أن يحب البلد، بشدة، وليس ببلده؛ فهل علم هذا الفيلسوف الآثم أن المعاناة ترسخ المحبة ولا تعصف بها؟!
أنا ابن الجنوب المصري الحافل بآثار الفراعين.. ظللت أرى السياح كثيرا في معابدنا (معبد حتحور بدندرة جزء أصيل من مدينتي قنا التي عشت فيها أكثر ما فات من العمر) وفي كل مكان بالوطن آثار ومعابد تحيط بالبشر كإحاطتهم بها، إن حقيقية وإن مجازا، وفي عاصمتي الحبيبة القاهرة لا زلت أرى هؤلاء السياح عند الأهرامات وفي المراكب النيلية وفي مسجد الحسين وفي كنيسة المعلقة وفي الشوارع العتيقة  وفي وسط البلد.. ألمح في عيونهم نفس المحبة الغامرة، المحبة التي لو ثمنها الأهل القريبون بالمضبوط لضاقوا بمحبتهم القريبة إذ وجدوها أبعد من محبة البعيدين!
تمتد الفكرة إلى كل شيء جديد صادق، كما الأشياء القديمة الراسخة، وما أكثر الأشياء الصادقة في واقعنا الحالي، ويحسبها المتشائمون كذبا.. أنا أحب وطني بقوة، مجمله وتفاصيله، ليس أدل على ذلك من كوني متعبا فيه وصابرا عليه، وقد يطول التعب والصبر، وأظل منتميا إليه وحفيا به ومكبرا إياه، لا أبدل به جنة رضوان، ولا أرضى بغيره عنوانا ولو سهل هذاك العنوان.
الوطن شوارع بداخلنا وبيوت بداخلنا وأشجار بداخلنا ومقاه بداخلنا وأطعمة ومشاريب وكتب وذكريات وروائح وأدخنة وأفراح ودموع.. يعرفنا ويسمعنا قدر ما نعرفه ونسمعه وأكثر، ويسير فينا ويستريح إلينا قدر ما نسير فيه ونستريح إليه وأكثر.. إنه الأعماق لا الشيء الدافئ الكامن في الأعماق، بمثابة وجوهنا وأسمائنا وفوق ذلك بكثير، ونحن لا ننسى وجوهنا ولا أسماءنا طرفة عين.
لا زالت أجسادنا تقشعر مع موسيقات الأغاني الوطنية، ولا زالت أرواحنا ترقص حين يقول الميكروفون الذي في الطائرة: وصلنا مصر بسلامة الله!
لم أر بائع أعلام إلا اشتريت منه لابنتي الصغيرتين علمين اثنين، وقلت لهما: اكبرا سريعا، واعملا على أن يكون هذا العلم مرفرفا في العلياء، قدر ما تعملان لأنفسكما عملا نافعا، يجعلكما الأفضل في واقعكما المفروض ومحيطكما المختار، وما كنت في غربة ما، وتنسمت نسيما لطيفا ذكرني بالوطن، إلا عدت حيا بعد موت، وهللت وكبرت وسجدت شاكرا للرب على ما آنسني به.. لا حد لفخري بمصريتي، ومهما يكن من أزمات فإنني متفائل بالشمس التي تشرق عندنا يوميا، متفائل كأنها تشرق لبلدي وناسي من دون البلاد والعباد، وهكذا أحببت الوطن..