رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى لحظة الدنيا تتغير

أجمل ما حدث فى مصر هذا الأسبوع هو ذلك اللون الوردى الذى عاد ليزهر فى الوجوه.. حالة من التفاؤل حتى وإن كان حذرًا سيطرت على وشوش الناس الذين ضغطتهم تفاصيل يومياتهم منذ ما يقرب من ثلاث سنوات.. مجرد خبر نقلهم من خانة الأسود المزرق إلى خانة الندى الأورجوانى.. هذا ليس مجازًا.. اللغة أقرب إلى أرواح الناس من الأرقام لو كنتم تعلمون. 

لقد تسربت أنباء صفقة إنشاء وتطوير مدينة رأس الحكمة منذ ما يزيد على شهر.. لكن الشارع لم يشعر بها.. كان هناك ما يقسو على أعصاب البشر العاديين بما يكفى لأن يهجروا نشرات الأخبار ومباريات الكرة وجلسات الدومينو والطاولة.. كانت السوق بمفرداتها البشعة وغير الإنسانية تلهو بنا وبهم كما شاء ولا رادع.. باع بعضنا بضعة مترات يملكها من إرث قديم وغالٍ.. وراح كثيرون يجربون الاقتراض من أبلكيشنات حديثة ولم يعد أحدهم يسأل عن حرمانية الفوايد التى يسمونها رسومًا.. وأخلصت السيدات كعادة الأيام الصعبة فى تدبير الجمعيات والأقساط لتجاوز أيام دفع مصاريف المدارس.. والسوق مستمرة فى طغيانها وجبروتها.. لم تفلح دعوات العواجيز ولا ضربات رجال الشرطة ولا جهاز حماية المستهلك مع غباء السوق.. صار الأمر نكتة، فالأسعار تتغير بمعدل كل ساعة تقريبًا.. وصار من البديهى والمعتاد أن يبحث الأطفال عن أسعار الذهب والعملة.. فقد صاروا فى قلب المعمعة.. التى يعيشها الأهل.. تغبشت الصورة بشكل مزعج ولم يعد البعض يرى أى نور فى نهاية النفق، فمن سيهتم لحظتها بتعمير مدينة أو تطويرها أو حتى بيعها وهو لم يسمع حتى باسمها من قبل؟

حتى غزة.. توارت أخبارها.. تعاطف المصريون مع أهلهم هناك وتمترسوا خلف القيادة السياسية فى موقفها الرافض لأى تهجير لأهلها.. تجاوبوا مع أى احتمالات منتظرة فى موقف عصيب... حتى الحرب استعدوا لها.. فعلوا ما أمكنهم من أول التبرع بما تيسر مرورًا بمقاطعة بضائع الشركات الداعمة للكيان الصهيونى وحتى الدعاء فى بيوتهم وفى بيوت الله.. وتحت ضغط ارتفاع الأسعار وعدم قدرة الكثيرين على مواجهة احتياجات بيوتهم وأطفالهم راحت أخبار غزة تتوارى قليلًا.. راح العالم بكل ما فيه يتوارى أمام سؤال سيدة عجوز: هنعمل إيه فى رمضان لو استمر الحال على ما هو عليه؟

فجأة.. خرجت الصفقة التى كانت مجرد تسريبات إلى العلن.. وبعدها بساعات معدودة راحت الوجوه المتعبة والأعصاب المشدودة تولى أعينها شطر الساحل الغربى.. راح أطفالنا يبحثون على الخريطة عن هذه المدينة الساحرة.. وعن مثيلاتها.. تنفس الكثيرون هواءً مريحًا.. وراحوا يسألون وهم يتابعون تراجعات سوق الدولار وسقوط حيتانها من أغنياء الحرب.. راحوا يشاهدون الذهب وهو يتراجع.. ثم فتشوا عن أسعار السلع.. هناك عودة إلى الخلف، وإن بدت بسيطة لكنها منحت الناس أملًا فى كسر قاعدة اللى بيطلع فى مصر ما بينزلش تانى. 

عاد بسطاء المصريين على المقاهى يتحدثون عن أهمية الاستثمار.. عن التطوير.. عن إفاقة ربما تحدث فى سوق العقار.. فى السياحة فى تجارة الخدمات.. بعضهم يسأل.. هذه المليارات هل ستذهب لسداد الديون فقط أم أنها يمكننا أن نبدأ فى تصحيح المسار، كما قال دولة رئيس الوزراء فى مؤتمره الصحفى؟ هل سيجد المتعطلون عملًا؟.. هل يعود سعر الحديد أدراجه.. هل تنخفض أسعار الأسمنت والدهانات؟.. هل تصدر لائحة قانون التصالح؟.. هل سنتمكن من مشاهدة مسلسلات رمضان بمزاج مصرى خالص، كما يحدث كل عام؟.. هل يمكننا أن نوفر شنط رمضان للمحتاجين كما تعودنا؟.. هل يبدأ المدرسون الجدد أعمالهم فى الترم الحالى أم أنهم سينتظرون الموازنة الجديدة فى عام جديد.. هل ينتصر أهل غزة ويحل العيد وهم يصلون فى الأقصى؟.. اختلط الخاص بالعام نعم.. ليس مهمًا.. المهم أن الدنيا تغيرت فى عيون الكثيرين.. عاد الأمل إلى صدور تيبست من الخوف على ما هو آتٍ.. الإحساس بإمكانية التغيير فى حد ذاته أمر لو تعلمون عظيم.