رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خالد منتصر: تعرضت للضرب فى الجامعة على يد الإخوان بسبب هانى شنودة

خالد منتصر
خالد منتصر

- الكاتب والمفكر قال إن أباه كان قارئًا جيدًا ويحضر «صالون العقاد» وظروف بداياتى لم تتوافر لكثيرين

- مكتبة أبى ومجلة «روزاليوسف» ويوسف إدريس أسهموا فى تكوينى الفكرى منذ الصغر 

- الإخوانى عصام العريان مزق مجلة حائط لأننى وصفت فيها عباس بن فرناس بـ المصلوب»

- إقامتى بدمياط فى السبعينيات كانت فرصة ذهبية.. وعمالها اشتروا لى الكتب الممنوعة من لبنان

- عمال دمياط هاجروا إلى لبنان بعد منع الاتحاد السوفيتى استيراد الموبيليا وطرد الخبراء الروس

- بعد ضرب اليسار عقب أحداث 77 عادت الجامعة من القرن العشرين إلى «الرجعية»

قال الكاتب والمفكر والطبيب خالد منتصر إن ظروف نشأته التى لم تتوافر لكثيرين تقف وراء تكوينه الفكرى، خاصة أنه ولد لأب يحب القراءة ويحضر «صالون العقاد»، كما اطلع منذ الصغر على كتابات يوسف إدريس ومجلة «روزاليوسف»، بالإضافة إلى الإقامة بقرية الشعراء بمحافظة دمياط، التى كانت الحياة الاجتماعية بها تشبه «الخيال العلمى» بالمقارنة بالأوضاع الحالية. وأوضح «منتصر»، خلال حديثه إلى برنامج «الشاهد»، الذى يقدمه الإعلامى الدكتور محمد الباز على فضائية «إكسترا نيوز»، أن هزيمة ١٩٦٧ غيرت من طبيعة المجتمع المصرى، بعدما اعتقد كثيرون، ومن بينهم مسئولون، أنها كانت «عقابًا للبُعد عن الله»، وبدأ بعد ذلك التحول نحو العنف والتكفير والفتنة الطائفية والعمليات الانتحارية. ولفت إلى أن انتقاله من الدراسة بحرم جامعة القاهرة إلى مدرجات كلية طب قصر العينى كانت انتقالًا نحو الرجعية، فى ظل انتشار «الجماعة الإسلامية»، وعملها على استقطاب طلاب المدينة الجامعية، وتوزيع الحجاب على الطالبات، الذى كان بمثابة راية الإسلام السياسى وقتها، مشيرًا إلى أنه تعرض للضرب على أيدى زملائه بسبب اعتراض طلاب الإخوان على تنظيم حفل لفرقة «المصريين» والملحن هانى شنودة بالكلية، الأمر الذى مهد لتحولهم نحو القتل بعد ذلك.

■ كيف بدأ تشكيلك الثقافى فى الصغر؟ وماذا كانت مصادر معرفتك؟

- توافرت لى ظروف فى بداياتى لم تتوافر لكثيرين، ومنها أننى كنت ابن السيد سعد منتصر، وكيل وزارة العدل وخريج كلية العلوم جامعة القاهرة، وأول شخص فى قرية الشعراء بمحافظة دمياط يحصل على تعليم عال.

وكان أبى قارئًا جيدًا، ويحضر «صالون العقاد» بشكل مستمر، وشخصيته تكونت من مدارس ما قبل الثورة، وكان قد حصل على الترتيب الأول فى قسم النبات بكلية العلوم، ورفض التعيين بالكلية، ثم تم تعيينه بقسم أبحاث التزييف والتزوير بوزارة العدل؛ وكان يحب مجالى الخط والكيمياء.

ونحن من عائلة متوسطة الحال فى قرية الشعراء، وكان والدى يعمل خطاطًا فى صغره على سيارات الموبيليا فى دمياط، وأيضًا على أفيشات الأفلام السينمائية لتوفير نفقات الدراسة، وقد عاصرت هذه التشكيلة طفلًا، وكانت لدينا مكتبة كبيرة فى المنزل بها العديد من الكتب المهمة، ما خلق لدىّ اهتمامًا واسعًا بالثقافة فى بدايات ثورة يوليو.

ولكن، كان هناك أيضًا جانب آخر فى هذه الطفولة صدمنى للغاية، فقد انتقل والدى إلى محافظة أسيوط لظروف العمل، وفى عام ١٩٦٧ عاد إلى قرية الشعراء فى الإجازة الصيفية، وكنا سعداء جدًا، لأن مصر أسقطت ٦٠ طائرة من جيش العدو، لكننا اكتشفنا الكارثة بعدها فى لحظة تنحى الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وفى هذه الفترة لم أكن أعرف حتى أن هناك رئيسًا لمصر كان اسمه محمد نجيب، وذلك حتى مرحلة الثانوية العامة.

■ ما الأشياء التى أثارت إعجابك وفضولك خلال الأوقات التى أمضيتها بقرية الشعراء بدمياط؟

- خلال مرحلة تكوينى الفكرى فى الصغر، أى فى بداية سبعينيات القرن الماضى، سافر والدى إلى ليبيا، فانتقلت لمدة تصل إلى نحو ٤ سنوات من الإقامة بحى العجوزة بالجيزة إلى الحياة بقرية الشعراء بمحافظة دمياط، وذلك بعد رفضى السفر معه.

وكانت دمياط تتميز بأجواء مختلفة تمامًا عما رأيته فى المرحلة السابقة من عمرى، فأنا منحاز للغاية لجمال ورقى مدن وقرى دمياط، وأشعر دائمًا بالحسرة على الأراضى الزراعية التى بورت.

ودمياط كانت تتميز بالعديد من الصناعات المختلفة، مثل الأحذية والحلويات والأثاث، ولكن صناعة الأحذية اندثرت الآن تمامًا، كما أن صناعة الموبيليا تعانى بشدة فى الفترة الحالية.

وفى ذلك الوقت، كانت دمياط تعتمد على التصدير إلى الاتحاد السوفيتى، وكانت هناك أسواق كبيرة مفتوحة للموبيليا، وقد تعرضت دمياط فى تلك الحقبة لتوترات شديدة، ومنع الاتحاد السوفيتى استيراد الموبيليا منها، وحدث شبه انهيار اقتصادى فى الورش الخاصة بها، وجاء قرار الرئيس الراحل محمد أنور السادات بطرد الخبراء السوفيت قبل حرب ١٩٧٣، ما جعل العلاقات تتوتر بشكل مباشر، ودفع العمالة الفنية فى دمياط للهجرة إلى لبنان.

وكانت هذه فرصة ذهبية بالنسبة لى، فقد نجحت فى شراء كتب عدة من لبنان، من خلال عمال القرية الذين يسافرون بشكل مستمر، وتعرفت من خلالها على يوسف إدريس، لأن كتبه كانت ممنوعة فى مصر بعد كتاب «البحث عن السادات»، وحتى الكاتب مصطفى محمود تعرفت عليه بنفس الطريقة، واستطعت تكوين مكتبة كبيرة من خلال هذه الطريقة فى مرحلة الإعدادية.

■ كيف أسهمت مجلة «روزاليوسف» وكتابات يوسف إدريس فى تكوينك الفكرى؟

- جزء كبير من تكوين شخصيتى فى صغر سنى يعود لكتب يوسف إدريس ومصطفى محمود ومجلة «روزاليوسف»، فقد كنت أحتفظ بجميع أعداد المجلة فى فترة السبعينيات، وكنت أحفظها بشكل مستمر، وكان الكاتب الكبير صلاح حافظ أيقونة بالنسبة لى، من حيث الأسلوب الساحر صحفيًا، ولم أرَ مثله كثيرًا بعد ذلك.

ومجلة «روزاليوسف» شكلتنى وشكلت جيلًا كبيرًا للغاية، وذلك قبل دخول المرحلة الجامعية، كما أن العمالة فى دمياط والأجواء الريفية أسهموا فى ذلك بشكل كبير، بالإضافة إلى أننى التحقت بعد انتقالى إلى قرية الشعراء بمدرسة حكومية مختلطة، ولم يكن هناك وقتها انتشار للجماعة الإسلامية بالشكل الصارخ الذى رأيته حين التحقت بالمرحلة الجامعية.

وقد توافرت لى فرصة ذهبية بعد انتقالى من المدينة إلى القرية فى ذلك التوقيت تحديدًا، لأن مصر كانت طبيعية للغاية، والدين والضمير كانا حاضرين تمامًا فى القرية، والناس تتعامل بكل أمانة وضمير، والطقوس لم يكن لها نفس السطوة الطاغية، وقد رأيت حياة اجتماعية حين أحكى عنها لأولادى الآن يقولون إنها «خيال علمى».

ووالدتى وعماتى وخالاتى كن دون حجاب فى القرية، وكان هذا أمرًا طبيعيًا للغاية، والأغرب أنه كانت تتوافد علينا فرق أغانٍ ورقص من محافظة المنصورة، وكان الفلاحون يشاهدونها باستمتاع، وكان بعض هذه الأغانى من الممكن أن يكون خليعًا وخارجًا للغاية بالمقياس الحاضر فى زمننا الحالى، لكن لم يكن هناك أى استهجان من المشاهدين لذلك.

وفى بداية السبعينيات، كان هناك بعض الناس يسمونهم «السُّنيين»، وكانوا لطافًا ولا يربطون بين مسألة التدين الزائد والتجهم، كما كانوا يجلسون ويسردون النكت الطبيعة مثل باقى الشعب المصرى، ولم يكن لديهم أى غلظة، مثل التى ترتبط حاليًا بالجماعات الموجودة فى زمننا الحالى، ولم تكن هناك أى تحولات نحو العنف والتكفير والعمليات الانتحارية.

■ كيف تأثر الناس بهزيمة ١٩٦٧ فى تلك الفترة الزمنية؟

- كان تفسير المواطنين لهزيمة ١٩٦٧ هو أنها «بُعد عن الله»، وأن الله سبحانه وتعالى عاقبنا بها، ثم منحنا الله الفوز فى أكتوبر بهتاف «الله أكبر»، وكان هذا التفسير بعيدًا عن الأسباب والتخطيط للحرب، لكنه كان محبوبًا عند البعض، بمن فيهم بعض المسئولين.

وقد حدث تغير كبير فى تلك الحقبة، وفوجئت وقتها بظهور «سطوة العادات»، ما جعلنى أصدر كتابى «الختان والعنف ضد المرأة»؛ لأننى رأيت بناتًا من أقاربى يتم اقتيادهن إلى الختان بكل عنف، بواسطة الأم، التى قهرت من الختان هى أيضًا، كما لاحظت بعدها ابتعاد البنات الصغار، اللاتى كن يلعبن معنا فى الشوارع بشكل كبير؛ لأنهن أيقن أن الأولاد هم ذئاب مفترسة، وأنهن تعرضن للختان كحماية منهم، فالختان يخلق لدى الفتيات فكرة الخوف من الاغتصاب والتحرش وكل المعانى المرتبطة بالشرف والعفة والجنس بشكل عام.

وكلية طب قصر العينى، التى درست بها، كانت فى تلك المرحلة مختلفة بسياستها عن الأوضاع الحالية، فقد كانت بها سنة دراسية تسمى بـ«الإعدادى» وندرسها داخل كلية العلوم، بحرم جامعة القاهرة، وبعد ذلك يتم الالتحاق بكلية الطب، وهذه السياسة وفرت لى فرصة الاحتكاك بكل القوى السياسية الشبابية التى كانت توجد، آنذاك، بالجامعة.

وكانت المحاضرات بكيلة العلوم داخل الحرم الجامعى تتم بجانب مدرجات كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وكلية الإعلام، وكانت هناك نماذج من الزمن الجميل داخل الحرم، من بينهم الدكتور محمود فوزى، كما تنتشر مجلات نوال السعداوى على جدران الكليات بالجامعة، وأيضًا كتابات أحمد عبدالله رزه، وكان يساريًا نبيلًا.

ووقتها، كان هناك شعور بانتهاء اليسار المصرى، ثم جاءت انتفاضة يناير ١٩٧٧، وتم ضرب قوى اليسار المنظمة، مثلما حدث مع مجلة «روزاليوسف».

وحينها، عبرنا كوبرى الجامعة بعد انتهاء المحاضرات بكلية العلوم إلى كلية طب قصر العينى، وكأننا كنا نعبر من القرن العشرين لنصل بالرجعية إلى القرن الرابع، فقد كان يتم فصل الفتيات عن الشباب فى كلية الطب، وكان يأتى للكلية طلبة بالجلباب الفلاحى.

■ ما مدى تأثير التنظيمات الإسلامية على الحياة الجامعية وقتها؟

- عندما التحقت بكلية الطب كانت جميع الفتيات فى دفعتى من غير المحجبات، وعند التخرج كان ٩٠٪ منهن قد قمن بارتداء الحجاب، وفى هذه الفترة بدأت الغلظة فى الحديث من شباب الجماعات الإسلامية، والأذان كان يُرفع فى مدرجات الجامعة فى أثناء المحاضرات، وأصبح الطالب هو إمام الأستاذ، ويصل الحديث مع الأستاذ إلى حد التعنيف.

والكتب والمراجع كانت تتم سرقتها من الأساتذة، وكانت الجماعات الإسلامية هى التى تقوم بهذه المهمة، وكان هناك عدد من العناصر البارزة التى تقوم بذلك، منهم حلمى الجزار، وعبدالمنعم أبوالفتوح، وعصام العريان، الذى تولى أمانة اللجنة الثقافية بكلية الطب فى هذا التوقيت، وأرسل طلبة لتمزيق مجلة الحائط، بعدما كتبت قصة عن عباس بن فرناس ووصفته فيه بعبارة «كأنه المصلوب»، وبسبب ذلك تم تمزيق المجلة.

وأكثر فئة كان يتم استقطابها سريعًا من قبل هذه الجماعات أبناء المدن الجامعية القادمون من الأقاليم والأرياف، وقد كانت مسألة الحجاب لها أولوية شديدة لدى جماعة الإخوان، لأن الحجاب كان مظهر الدين الإسلامى؛ لذا قاموا بتوزيعه بالمجان، وكان الحجاب فى هذا التوقيت كالراية السياسية الإسلامية الخاصة بهم.

وفى هذا الوقت، بدأ أيضًا ظهور عدد من الفرق الغنائية المصرية، منها فرقة هانى شنودة، وكنا فى رحلة إلى أسوان ونستمع، آنذاك لشريط، موسيقى شهير لفرقة «المصريين»، وكنا سعداء به، وفكرنا فى استضافة الفرقة وهانى شنودة بالكلية، وكان عميد كلية الطب آنذاك هو الدكتور هاشم فؤاد، وكان عبقريًا وإنسانًا نبيلًا ووطنيًا، وشجعنا على ذلك.

وكانت الكارثة عندما تم الإعلان عن الأمر، إذ دخل شباب جماعة الإخوان إلى قاعة الحفل من أجل تأدية صلاة الظهر والعصر والمغرب عمدًا، ووصل النقاش معهم بسبب عدم موافقتهم على الخروج من القاعة لبدء الحفل إلى حد الاشتباك بالأيدى، وتعرضنا لضرب مبرح على أيدى هذه الفئة.

ولم يكن العنف الجسدى هو ما صدمنى من هذه الجماعة، ولكن الصدمة الحقيقية كانت عندما وجدت أصدقائى من الجماعة وهو يقومون بضربى ضربًا مبرحًا، بسبب إيمانهم بسياستهم، ولذا فقد كان من الطبيعى والمتوقع أن يتحول هذا الضرب إلى قتل بعد ذلك.

■ متى بدأ انتشار أفكار الفتنة الطائفية؟

- تتلمذت على أيدى نماذج قبطية فى غاية الرقى والتحضر والأخلاق، وكان من بين هؤلاء الذين أخذت العلم عنهم الدكتور مفيد إبراهيم سعيد، وكان هذا الطبيب راعيًا من رعاة الكنيسة، وكان مكروهًا من الجماعة الإسلامية، رغم أخلاقه الحميدة.

ومن هنا، بدأت أسمع كلمات «مسلم» و«مسيحى»، وليس «مصريًا»، فقد كان تصنيف المواطنين يتم وفق الديانة، وبدأت أرى التطبيق الفعلى لذلك داخل كلية من أعرق كليات الشرق الأوسط بالكامل، وهى كلية طب قصر العينى، وقد كان من المستحيل وقتها أن يقترب مسيحى من قسم النساء والتوليد، وكان المبرر فى ذلك يتمثل فى أن نجيب محفوظ باشا، الذى أسس القسم، كان يضطهد المسلمين، رغم أن جميع الأساتذة الذين جاءوا بعده كانوا مسلمين ومن تلامذته، وهو من أرسلهم فى البعثات للخارج.

وعندما كنت طبيب امتياز، كان لدينا زميل نائب فى قسم الرمد، وأخبروه أنه من المستحيل أن يحصل على الدكتوراه لأنه مسيحى، وكان هذا الطالب يذهب إلى الكنيسة كى يحل أزمته، ومن هنا بدأت الفتن الطائفية، وأصبحت كلمة «مصرى» تتوارى للخلف كثيرًا.