رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لماذا الاحتفاء بالعلاقات المصرية ـ التركية؟

يذهب السفير التركي المتقاعد، شفق جوكتورك، الذي شغل منصب سفير تركيا لدى القاهرة عام 2005، ولمدة خمس سنوات، إلى أن مصر دولة رئيسية في المنطقة وفي شرق البحر الأبيض المتوسط، في حين باتت تركيا معزولة لفترة من الوقت، بسبب تعاون مصر مع دول أخرى على ساحل شرق المتوسط.. وهو يقصد هنا اليونان وقبرص، التي وقّعت معهما مصر اتفاقيتي ترسيم للحدود، وأصبحتا عضوين في منتدى غاز شرق المتوسط.. لذا فقد شملت مناقشات الرئيسين، عبد الفتاح السيسي، والتركي رجب طيب أردوغان، قضية موارد الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط.. وتهدف تركيا إلى رفع حجم التجارة مع القاهرة، أكبر شريك تجاري لأنقرة في إفريقيا، إلى 15 مليار دولار وتوسيع الاستثمارات التركية في مصر.
قبل ثمانية أشهر من الآن.. أشار الرئيس التركي، في لقائه مع صحفيين أتراك على متن الطائرة الرئاسية، أثناء عودته من الجولة الخليجية التي شملت السعودية وقطر والإمارات، وشمال قبرص، إلى أن الجولة المقبلة ربما تشمل بعض دول شمال إفريقيا، بعدما لمس ترحيبًا من قادة دول الخليج الثلاثة التي زارها، بإعلان مصر وتركيا رفع علاقاتهما الدبلوماسية لمستوى السفراء مؤخرًا، "في لقاءاتي الخاصة مع القادة خلال زيارتي لدول الخليج، لمست أن الخطوة التي اتخذناها بشأن مصرـ رفع مستوى العلاقات الدبلوماسيةـ جعلتهم سعداء حقًا.. ورجال الأعمال يطورون العلاقات مع مصر، حتى تتطور علاقات تركيا معها بشكل مختلف للغاية".. في الوقت الذي أكد فيه رئيس مجلس الأعمال التركي- المصري، مصطفى دنيزر، أن مصر ستصبح، في الفترة المقبلة، أهم شريك لتركيا في التصدير والتجارة، وأن حجم التجارة الثنائية بينهما قد يصل إلى 15 مليار دولار.. فلماذا هذا الاحتفاء الواضح بالعلاقات المصريةـ التركية.
حتى ندرك أهمية مصر بالنسبة لتركيا، لا بد من الإقرار أولًا بأن اقتصاد مصر واعد، ويحقق معدلات نمو كبيرة خلال الأعوام الماضية، وبالرغم من التحديات الجِسام أمام الدولة المصرية، فهي أكبر سوق جاذبة للاستثمار في قارة إفريقيا، وتمثل بوابة مهمة لتركيا نحو القارة السوداء، وهي جاذبة للاستثمارات التركية في المشروعات التنموية العملاقة في محور التنمية بالعاصمة الإدارية الجديدة.. وهناك أيضًا مجال مهم للتعاون بين البلدين في مجال الطاقة، حيث إن مصر مؤسِسة لـ"منتدى غاز شرق المتوسط"، الذي يضم إحدى عشرة دولة في منطقة المتوسط، ومن المحتمل، بعد تقارب العلاقات بين البلدين، أن تنضم تركيا إلى مصر في هذا المنتدى، حيث إنه يمثل أهمية كبيرة في التفعيل والاستغلال الأمثل لموارد الغاز في منطقة المتوسط بما يعود بالنفع، وبالتالي على المستوى الاقتصادي، هناك مجالات كثيرة للتعاون بين البلدين.
لم تتأثر العلاقات الاقتصادية بين البلدين في ظل الخلافات بينهما، وهو ما يؤكد أن هناك بيئة قوية، يمكن البناء عليها لتعزيز التبادل التجاري بين البلدين، والفترة المقبلة ستشهد المزيد من التنسيق السياسي، سواء على مستوى الملف الليبي وغيره، وسيكون هناك مردود إيجابي على البلدين، إلى جانب تحقيق الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط.. وهنا، يمكننا رصد عدة فوائد اقتصادية للتقارب المصري ـ التركي، أهمها نفاذ صادرات البلدين إلى المحيط الإقليمي للطرف الآخر، فصادرات مصر يمكنها النفاذ بقوة إلى السوق الأوروبي، مستغلة الخبرة التركية في ذلك، وكذلك تفعل صادرات تركيا مع السوق الإفريقية صاحبة الـ 1.4 مليار مستهلك، خصوصًا وأن هناك قفزة كبرى في العلاقات الاقتصادية وحجم التبادل التجاري بين مصر وتركيا خلال عام 2021، حيث ارتفعت كمية البضائع المُستوردة والمُصدرة بين البلدين بمقدار الثلث.
سيحقق التقارب تبادل الخبرات وتحسن الليرة التركية والجنيه المصري معًا، كما أن التقارب والتفاهم يؤدي لازدهار الدول المطلة على البحر المتوسط، ويعود بالفائدة على القارة الإفريقية.. فمصر دولة مهمة لاستقرار هذه القارة.. وقد لا يفوتنا هنا الإشارة إلى أنه ورغم الخلافات التي امتدت لسنوات في وجهات النظر السياسية بين مصر وتركيا، إلا أن البلدين حرصا على عدم تأثر العلاقات الاقتصادية، بل بالعكس، زادت هذه العلاقات وتطورت وبلغ التبادل التجاري 7.7 مليار دولار خلال عام 2022.. وحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن أهم المجموعات السلعية التي صدرتها مصر إلى تركيا خلال العام المُشار إليه، الوقود والزيوت المعدنية ومنتجات تقطيرها بقيمة 1.7 مليار دولار، ثم اللدائن ومصنوعاتها بـ 390.5 مليون دولار، والمنتجات الكيميائية غير العضوية بـ 259 مليون دولار، والشُعيرات التركيبية أو الاصطناعية بـ 194.4 مليون دولار، والأسمدة بـ 194.4 مليون دولار، والآلات والأجهزة والمعدات الكهربائية بـ 169.9 مليون دولار.. وكانت أهم المجموعات السلعية التي استوردتها مصر من تركيا في نفس العام، الحديد والصلب بـ 535.5 مليون دولار، ومراجل وآلات وأجهزة آلية بـ 400.1 مليون دولار، ووقود وزيوت معدنية ومنتجات تقطيرها بـ 312.7 مليون دولار، ومصنوعات من حديد أو صلب بـ 256.9 مليون دولار، ومنتجات كيميائية غير عضوية بـ 219.6 مليون دولار، ولدائن ومصنوعاتها بـ 184.7 مليون دولار.. ووفقًا للهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات التابعة لوزارة التجارة والصناعة فإن الصادرات غير البترولية، جاءت تركيا من ضمن أكبر أسواق الصادرات المصرية، واحتلت المركز الثالث.
تصريحات الرئيس التركي عن ضرورة تطوير العلاقات مع مصر، تعكس أن العلاقات بين مصر وتركيا تمثل أهمية كبيرة لكل من البلدين، في ظل المزايا النسبية التي يتمتع بها كل منهما، وفي ظل الازمات العالمية، تبحث مصر وتركيا عن التعافي الاقتصادي بعد أزمة جائحة كورونا والحرب الروسية ـ الأوكرانية، وكذلك الحرب الإسرائيلية في غزة.. وفي اعتقادي، أن تركيا تمثل أهمية كبيرة لمصر، حيث إن تركيا قوة اقتصادية كبرى، وهي واحدة من أعضاء مجموعة العشرين الاقتصادية، وتحتل المرتبة السادسة عشرة على مستوى الاقتصاد العالمي، وتمثل سوقًا مهمة للمنتجات المصرية، بقوة شرائية لثمانين مليون نسمة، فضلًا عن أنها مدخل لأوروبا ودول وسط آسيا، بالإضافة إلى أن تركيا لها تجربة تنموية مهمة، حيث الاستثمارات التركية في مجالات النقل والتكنولوجيا وتصنيع السيارات والأسلحة وغيرها، وهناك استثمارات تركية ضخمة في المنطقة الصناعية بقناة السويس، وأيضًا حجم التبادل التجاري بين البلدين يُمثِّل عشرة مليارات دولار.
وتأتي الزيارة في توقيت مهم للمنطقة، في رأي رئيس المجلس المصري للشئون الخارجية، محمد العرابي الذي يؤكد أنها ستتضمن عرض كل طرف مواقفه ومخاوفه أمام الطرف الآخر؛ لوضعها في الاعتبار عند اتخاذ أي قرار أو إجراء في الملفات المشتركة، وتلك "نقطة مهمة" في مسار العلاقات بين البلدين بعد فترة التوقف الطويل.
■■ خلاصة القول..
ـ إن زيارة الرئيس أردوغان للقاهرة تتسق مع التغيرات الجذرية في السياسة التركية، خلال السنوات الأخيرة، بما يعزز من الشراكة التركيةـ العربية، مع الالتزام بمبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول العربية.. هذه الزيارة التي حظيت بدعم وتأييد من مختلف التيارات السياسية ووسائل الإعلام، حتى المعارِضة لسياسات الحكومة.. وقد أدى وصول الرئيس التركي إلى القاهرة إلى "كسر حاجز من الجمود" تراكم في السنوات الماضية، على خلفية التصريحات السلبية التي أدلى بها، وهو الأمر الذي سيؤدي لدفع العلاقات الثنائية بين البلدين على مختلف الأصعدة.. وتأتي الزيارة استكمالًا لنهج التحايل على القضايا الخلافية، والتوجه نحو تحويل العلاقات لـ"مستوى استراتيجي"، وهو أمر لا يقتصر فقط على زيارة الرئيس التركي، ولكن على الصفقات التجارية والعسكرية والنشاطات المختلفة المتوقع تعزيز التعاون فيها بين البلدين.
ـ إن مصر ستدعم تعزيز الاستثمارات التركية فيها، ولدى أنقرة فرصة للاستفادة من الدور المصري في مشاريع الغاز بشرق المتوسط، أو بتوسيع وجودها إفريقيًا، وهو أحد الملفات المهمة في السياسة الخارجية التركية، بجانب التعاون في مجال الصناعات الدفاعية والعسكرية بما يخدم مصالح البلدين.. وكان وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، قد أعلن الأسبوع الماضي موافقة بلاده على "تزويد مصر بطائراتها المُسيَّرة التي تحظى بشعبية كبيرة"، في "إطار تطبيع العلاقات بين البلدين".. هذه الصفقة- المسيَّرات- لا ترتبط فقط بالجانب العسكري، لكنها مرتبطة أيضًا بالجانب التجاري الذي يشهد مناقشات موسعة بين المستثمرين من البلدين.. وتدرس مصر وتركيا تطبيق آلية التبادل التجاري بالعملتين المحليتين، وفق مناقشات بين البنك المركزي المصري ونظيره التركي، وسط توقعات بتنفيذ ما يتراوح بين 20 و25 في المائة من حجم التجارة المشتركة بالعملات المحلية قبل نهاية العام الحالي.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.