رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

زيارة أردوغان.. آفاق جديدة فى العلاقات بين القاهرة وأنقرة

دائمًا ما تثبت مصر قوتها الإقليمية، من خلال دورها الفعال والهادئ، حيث جدية الدور المصري ونزاهته واستمراريته دون تحقيق مصالح خاصة، بل تحقيق أمن المنطقة برمته وسلامة واستقرار دولها، وبما يحقق مفهوم الدولة الوطنية.. وقد عززت مصر دورها الإقليمي ونهجها الإيجابى المتنامي، للحفاظ على الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، على الرغم من التحديات الاقتصادية التي تواجه أكبر دولة عربية من حيث عدد السكان، حيث تحيط بمصر صراعات واضطرابات في الدول المجاورة، بما في ذلك ليبيا غربًا، والسودان جنوبًا، وقطاع غزة في شمال شرق البلاد، وهجمات الحوثيين في البحر الأحمر التي أثرت على الملاحة في قناة السويس.. في الوقت نفسه، تسعى مصر جاهدة لاحتواء الأزمة الاقتصادية المتمثلة في نقص الدولار الأمريكي وانخفاض قيمة العملة المحلية وارتفاع معدل التضخم.. ومع ذلك، لم تمنع التحديات الاقتصادية القاهرة من مواصلة وساطتها النشطة في الأزمات الإقليمية الحرجة، لتقريب المواقف بين الأطراف المتصارعة من أجل تسوية هذه الأزمات.
استعادت مصر قدرا كبيرا من التوازن في علاقتها مع القوى الكبرى من خلال استمرار العلاقة الاستراتيجية التي تجمعها بالولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة لنجاحها في فتح آفاق جديدة للعلاقات مع قوى كبرى أخرى، مثل روسيا والصين والاتحاد الأوروبي، وكانت الأحداث التي وقعت في قطاع غزة، خير دليل على أن مصر قوة إقليمية مهمة، ودونها من الصعب الوصول إلى حالة من الهدوء في المنطقة.. ووفقًا لما وصلت إليه مصر على الساحة الإقليمية واستعادة مكانتها بين دول الإقليم، والجهود التي بذلتها في مختلف القضايا، فإن مصر قامت بنقلة قوية في محيطها الخارجي في وقتٍ قياسي؛ حيث تحولت من دولة فقدت مكانتها الإقليمية وتراجع دورها الإقليمي، إلى دولة عادت مرة أخرى إلى الساحة الإقليمية؛ بفضل جهود بذلتها القيادة السياسية، إذ استطاعت مصر، منذ تولي الرئيس عبدالفتاح السيسي، استعادة الدور الإقليمي لها في المنطقة، وتحقيق المعادلة الصعبة بين الداخل والخارج، من خلال تنمية الداخل واستعادة الدور في الخارج، والمساهمة في حلحلة القضايا القائمة، وكان لها حضور على كافة الأصعدة وفي كافة الاتجاهات، سواء في القضية الفلسطينية أو الملف الليبي أو اللبناني أو العراقي، وهو ما يمكن إرجاعه إلى إدراك القائد لقوة الدولة ومكانتها، بما يحقق مصالح الدولة الوطنية بشكل خاص، وتحقيق أمن المنطقة بشكل عام، إذ تميزت السياسة الخارجية المصرية ببعد النظر والقراءة المبكرة لمسار المتغيرات على الساحة الدولية، حتى نجحت مصر، خلال السنوات العشر الماضية، أن تتبوأ مكانتها ودورها الإقليمي الفعَّال، ولعبت دورًا في المساهمة في إنهاء الأزمات في المنطقة العربية، ومازالت تسعى في القضية الفلسطينية.
من بين تشابكات المنطقة، تأتي العلاقات المصريةـ التركية التي اتسمت بالصعود والهبوط، لكن هذه السمة لم تؤثر يومًا على متانتها، لاسيما وأنها قديمة وضاربة فى عمق التاريخ منذ الإمبراطورية العثمانية.. ونتيجة لذلك، تأسست بين البلدين علاقات متميزة فى مختلف المجالات، دينية وثقافية وتاريخية.. وقد شهدت العلاقات المصريةـ التركية على مدار العقد الماضي حالة من الفتور والتوتر، لكنها استطاعت أن تستعيد قوتها على المستوى الرسمي، منذ لقاء الرئيسين، عبدالفتاح السيسي ورجب طيب أردوغان، على هامش بطولة كأس العالم بدولة قطر، نوفمبر 2022، حتى استعادة التمثيل الدبلوماسي الرسمي بعد إعادة انتخاب الرئيس التركي في مايو 2023، وإعادة تبادل السفراء بين البلدين في يوليو من نفس العام.
وبالعودة للتاريخ، فإن العلاقات الثنائية بين مصر وتركيا ظلت متأصلة الجذور بحكم التاريخ والجغرافيا، حيث تشترك البلدين فى التاريخ والجغرافيا، (الشراكة الأورومتوسطية)، كما تقترب الحدود التركية من دول ذات علاقة وثيقة بالدولة المصرية، مثل قبرص واليونان، وكذلك سوريا، وقد شكلت هذه الحدود التاريخ بين البلدين في مواقف تاريخية عدة.. وشهدت العلاقات التاريخية والثقافية بين مصر وتركيا تطورات على مر القرون بين الشد والتعاون والتبادل الثقافي.. هناك شراكة تاريخية خلال فترة الحكم العثماني، في الفترة من 1517 – 1914، وشهدت مصر تولي الولاه من الآستانة، حتى وصول محمد علي لحكم مصر عام 1805.. ومع الحرب العالمية الأولى، وتحالف تركيا مع قوى المركز أو دول المحور ضد الحلفاء، والتي تضم بريطانيا العظمي، وكانت مصر تخضع للاحتلال البريطاني الذي سعى لإخراج مصر من ولاية الدولة العثمانية، فيما انفصلت تركيا عن الولاية العثمانية حتى أصبحت جمهورية عام 1923، واستمر التعاون المصري ـ التركي على المستوى الثقافي والتاريخي والدبلوماسي حتى ثورة يوليو 1952.
كذلك، استمرت العلاقات المصريةـ التركية طوال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، تعتمد على التعاون الاقتصادي بشكل يفوق التعاون السياسي، حتى الدور المصري في التسعينيات في تهدئة النزاع التركي ـ السوري حول الحدود والمياه، لتصل إلى ذروتها في أعقاب ثورة 25 يناير 2011، وترفيع العلاقات مع أنقرة ۲۰۱۲ مع نظام الإخوان، حتى جاءت ثورة ٣٠ يونيو 2013، لتتوتر العلاقات وتصل لمستوى القطيعة وطرد السفير التركي واستدعاء السفير المصري من تركيا، علمًا بأن أول سفير تركي بدأ عمله في مصر منذ عام 1925، على مستوى قائم بالأعمال حتى عام 1984، وبدأت مصر وتركيا في تبادل السفراء حتى نوفمبر عام 2013، بسحب السفراء نتيجة تصاعد التوتر بين البلدين، حتى بدأ الحديث عن عودة العلاقات في 2021، وصولًا إلى زيارة وزير الخارجية، سامح شكري، إلى تركيا لإعلان التضامن المصرى وتقديم الدعم والمساعدات الإنسانية لها إثر الزلازل المدمرة التي حلت بالمدن التركية والسورية، والتي أودت بحياة عشرات الآلاف في فبراير 2023.. أعقبها في مارس، زيارة وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، إلى القاهرة للاتفاق حول سبل عودة العلاقات، وصولًا إلى ترفيع مستوى التمثيل الدبلوماسي وترسيم السفراء للبلدين في يوليو 2023.
وجاءت زيارة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان إلى القاهرة، شهادة ميلاد جديدة للعلاقات المصرية ـ التركية، تعكس الرغبة في فتح صفحة جديدة، وإحياء أواصر الصداقة بين البلدين، كما تُعد تقديرًا من أنقرة لدور مصر المحوري في المنطقة، بقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسي، وحرصها على إحلال الأمن والاستقرار الإقليمي.. وتأتي في توقيت بالغ الخطورة، أي في ظل الصراعات والأزمات التي تشهدها الأمتان، العربية والإسلامية، وكذا الملفات المُعقدة بالمنطقة، وعلى وجه الخصوص الحرب الحالية في قطاع غزة وما تشهده القضية الفلسطينية من مخططات لتصفيتها، مما يتطلب توحيد الصفوف لمجابهة تلك المخاطر.
بلا شك، فإن تحسين مناخ العلاقات وتنشيط آليات التعاون الثنائي رفيعة المستوى وتحقيق التقارب بين مصر وتركيا، سيعطي للمنطقة قوة وأمانًا، بالنظر إلى ثقل مصر وتركيا في الشرق الأوسط.. وفي هذا الإطار، تكتسب زيارة الرئيس التركي للقاهرة أهمية استثنائية، إذ تُعد الأولى من نوعها إلى مصر منذ سنوات طويلة من الخلاف السياسي، وتبعث برسالة مفادها، أن صفحات الماضي قد طويت لنبدأ مرحلة جديدة، متطلعين إلى مستقبل يسوده التعاون والاحترام، بما يحفظ أمن الدول واستقرارها.. مجيء الرئيس أردوغان إلى القاهرة يمهد لتحالف استراتيجي جديد، يرسم مستقبل الإقليم في هذا التوقيت شديد الحساسية، الذي تموج فيه المنطقة بالاضطرابات والاستقطابات وإعادة ترتيب الأوراق، بجانب الأوضاع المشتعلة بالمنطقة نتيجة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وتداعياتها الخطيرة على استقرار الشرق الأوسط.. زيارة الرئيس التركي إلى مصر شكَّلت فرصة ذهبية للتوصل إلى تفاهمات حول عدد من القضايا العالقة، وتقريب وجهات النظر، لاسيما في الملف الليبي الذي يمثل أهمية قصوى للبلدين، بالإضافة إلى تنسيق المواقف في القضايا المصيرية والعمل على وقف الحرب الإسرائيلية، وإنفاذ المساعدات الإنسانية إلى أهل غزة ومنع تهجير الفلسطينيين وإنقاذ القضية من التصفية، مع تشجيع بلدان العالم المُحبة للسلام والعدل على الاعتراف المباشر بالدولة الفلسطينية.
■■ وبعد..
فإن القيادة السياسية المصرية الحكيمة، ودبلوماسيتها صاحبة الخبرة، نجحتا في الحفاظ على العلاقات بين مصر وتركيا، التي لم تشهد قطيعة حقيقة، بالرغم من التوتر الذي شابها على مدار عقد من الزمن، إذ استمرت العلاقات الاقتصادية والاستثمارات التركية في مصر، علاوة على وجود جالية مصرية مهمة وذات تأثير بالمجتمع التركي، لأن العلاقات التاريخية بين البلدين، والتي تعود لقرون، كونت إرثًا ثقافيًا وحضاريًا وتراثيًا بين الشعبين، تجلى في عدم تأثر العلاقات الشعبية بين مصر وتركيا بالتوترات السياسية بين البلدين على مدار العقود الماضية.. فبالرغم من حدة التوترات الأيديولوجية والسياسية والإعلامية، إلا أن علاقات الشعبين لم تتأثر على عدة مستويات.. كذك لم يتأثر ملف الاستثمارات والعلاقات التجارية بين البلدين، إذ ظل التعاون قائمًا في هذا الشأن طوال العشر سنوات الماضية، وسوف تُتوَّج زيارة أردوغان لمصر بقطع أشواط طويلة في اتجاه العودة إلى علاقات طبيعية كاملة، تصب في مصلحة الشعبين وتحقق تطلع شعوب الشرق الأوسط إلى العيش بمنطقة خالية من الأزمات تنعم بالأمن والاستقرار والسلام، بالإضافة إلى المصالح التجارية المشتركة بين البلدين، والتي سيعود تعزيزها بالنفع على الشعبين الصديقين.. وذلك حديث المقال التالي.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.