رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كنائس المهد وبيرفيروس والبلدات القديمة.. تاريخ فلسطين في مرمى نيران الصهاينة

فلسطين
فلسطين

كنوز أثرية ومعمارية فلسطينية ومواقع طبيعية بمثابة درر فريدة تعرض للعالم تاريخ فلسطين العريق منذ العصور القديمة مرورًا بالعصر اليوناني الروماني ثم البيزنطي وعصور الحضارة الإسلامية من أموية وعباسية ومملوكية وعثمانية وحتى العصر الحديث.

 حول الآثار التي تضررت جراء العدوان الصهيوني على فلسطين، التقت “الدستور” الدكتور شريف شعبان، المتخصص في الآثار، للحديث عن هذا الأمر باستفاضة.

اليونسكو

تحدث شعبان في البداية حول انضمام فلسطين رسميًا إلى منظمة اليونسكو في 31 أكتور من عام 2011، بعد وجود مكتب اتصال لليونسكو بمدينة رام الله عام 1997، حيث عملت السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة خلال العقود الماضية على إصدار وتعديل العديد من التشريعات والقوانين من أجل حماية الآثار والتراث الفلسطيني، لتُدرج عدة مواقع فلسطينية ضمن قائمة التراث العالمي. هذا الزخم المعماري والفني والطبيعي نادرًا ما نجده على أرض واحدة وهو ما يجعل أرض فلسطين متحفًا مفتوحًا لتاريخ الإنسانية. 

يكمل: “إلا أن هذا المتحف المفتوح قد تحول إلى ساحة حرب شعواء لا تنال من البشر وحياتهم اليومية فحسب، بل تنل من ماضيهم وتراثهم الذي لا يقدر بأي ثمن. فالإحتلال الاسرائيلي منذ أن وطأ أرض فلسطين وهو يحاول طمس الهوية الفلسطينية واقتلاعها من جذورها، بداية من تغيير أسماء الشوارع والأحياء وصبغها بصبغة المستوطن اللص من أجل تهويدها ومحو ماضيها الضارب في القدم وتزوير حقيقتها لصالح صناعة هوية إسرائيلية زائفة، كما اتبع الاحتلال صورًا وأشكالًا وأساليبَ عدة في استهدافه المواقع والآثار التاريخية مثل التدمير أو السرقة أو التجريف أو المصادرة أو إقامة المستوطنات عليها أو شراء الآثار من الفلسطينيين". 

أضاف: "بدأت المأساة مع تأسيس (جمعية أبحاث أرض إسرائيل) عام 1913 من قبل الجماعة الصهيونية من أجل إجراء أبحاث حول الآثار الفلسطينية، ومحاولة ربطها بالتوراة ضمن مشروع علم خطير يعرف بعلم آثار الكتاب المقدس وذلك للترويج للرواية الإسرائيلية بوجود مواقع أثرية يهودية في فلسطين.وفي السطور التالية دعوني أذكركم وأذكر العالم بأهم الآثار الفلسطينية والمهدد بعضها بالضياع”.

 

كنيسة المهد

يقول شريف شعبان عن الآثار التي تعرضت للعدوان الصهيوني: “نبدأ بكنيسة المهد التي ولد يسوع المسيح في موقعها ببيت لحم جنوبي الضفة الغربية، وتعتبر كنيسة المهد من أقدم كنائس فلسطين والعالم، والأهم من هذا هو أن الطقوس الدينية تقام بها بانتظام منذ مطلع القرن السادس الميلادي وحتى يومنها هذا، وكان الفلسطينيون قد حققوا في 2012 إنجازا تاريخيا تجلى في موافقة هيئة اليونيسكو على إدراج كنيسة المهد في بيت لحم بالضفة الغربية على قائمة التراث العالمي، حيث أن كنيسة المهد هي أول موقع فلسطيني يدرج ضمن لائحة التراث العالمي للمنظمة، إلا أن كنيسة المهد قد وضعت ضمن قائمة الآثار المهددة بالخطر بسبب الحالة الحرجة التي عانت منها لتعرض سقفها للمياه وهو ما هددها بالانهيار، ما أخضعها إلى خطة ترميم عاجلة استمر نحو 6 سنوات”.

البلدة القديمة في الخليل

يقول: “هناك البلدة القديمة في الخليل هي الجزء التاريخي القديم لمدينة الخليل جنوب الضفة الغربية في فلسطين. يعود إنشاء معظم مبانيها إلى فترة الحكم المملوكي، ابتداءً من القرن الحادي عشر الميلادي، وتكمن أهمية البلدة القديمة في كونها تضم عددًا كبيرًا من الطرق والمباني الأثريّة، بالإضافة إلى المعالم المعماريّة والدينيّة الهامة للديانات الإبراهيميّة الثلاث، أهمها المسجد الإبراهيمي، إلا أن البلدة منذ عام 1967 وقد وقعت تحت الاحتلال الاسرائيلي ومنذ ذلك التاريخ شرع المستوطنون اليهود بالاستيطان في محيط المدينة ثم في داخلها، ويوجد داخل المدينة حاليًا خمسة مواقع استيطانية؛ ومنذ حادث إطلاق المتطرف الاسرائيلي النار على المصلين بالمسجد الإبراهيمي عام 1994 تم تقسيم المدينة إلى H1 تابع للسلطة الفلسطينية وH2 تابع للاحتلال الاسرائيلي ومن بينها  البلدة الأثرية القديمة، إلا أن الاعتداءات الاسرائيلية المتكررة على البلدة وحرمانها من الترميم والصيانة جعل منطمة اليونسكو تدرجها في 2017 على قائمة التراث العالمي المُهدد بالخطر”. 

البدة القديمة في القدس

اتسطرد: “هناك كهف (طور بِدّو) في بلدة إذنا غربي مدينة  الخليل وهو من أقدم الكهوف في المنطقة الممتدة على مساحة 1000 متر مربع، حيث بنيت أجزاء منه في عصور مختلفة، أقدمها اليوناني، وهو يبدأ من فوهات علوية تتّسع في الأسفل، وأخرى استُحدِثت في جوانبه. ويمثل كهف طور بدو لوحة تراثية تعكس ملامح متنوعة من التراث الفلسطيني على مر العصور الرومانية والبيزنطية والإسلامية، منذ أكثر من ألفي عام، والأروع في هذا الكهف أنه كان ملاجًا للهاربين من طغيان الدولة الرومانية في العصور القديمة، واستمر يلعب نفس الدور في العصر الحديث عندما هرب إليه أهالي القرى في عام 1948 وعام 1967 هربًا من اعتداءات الاحتلال. ولكن اليوم يواجه الكهف خطر مصادرته من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، ومنع ترميمه”. 

قرية بتير

أما قرية بتير الفلسطينية في الضفة الغربية، وهي تحمل إسما كنعاني الأصل يعني "بيت الطير" فتقع بين جبلين شاهقين يتوسطهما واد سحيق يحضن العديد من بساتين تتدرج بشكل منتظم حتى نهاية الوادي، وهذا ما يميز القرية عن ما يجاورها من القرى. وما يزيد المنظر جمالا وبهجة وجود عدة مواقع أثرية في القرية تعود لآلاف السنين منها ما هو كنعاني وروماني وبيزنطي، ومن أبرزها آثار قلعة كنعانية وحمام روماني والبئر الذي شرب منه سيدنا إبراهيم عليه السلام في طريقه إلى مدينة الخليل والمسجد العمري الذي صلى فيه الخليفة عمر بن الخطاب حين فتح القدس. إلا أن القرية مثلها مثل أراضي فلسطين قد وقعت ضمن أطماع الاحتلال خلال اتفاقية رودس عام 1949، لتنقسم تلك البقعة المشرقة إلى جزءين، أحدهما تابع للإحتلال والآخر تحت السيادة الأردنية، وبعدها انتقلت إلى السيادة الفلسطينية. 

منذ هذا التاريخ تعمل إسرائيل على بناء جدار عازل يفصل القرية، وهو ما نتج عنه تدمير ثلثي أراضي بتير الزراعية حيث سيدمر شبكة الري الرومانية الأثرية ومنها تدمير الإرث الحضاري والإنساني والتاريخي والثقافي والطبيعي للقرية الذي يعود لآلاف السنين، ورغم فوز القرية  بجائز اليونسكو السنوية للحفاظ على التراث الثقافي والطبيعي عام 2011 من بين أكثر من 40 قرية عالمية، وتسجيلها ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو  عام 2014 لتفردها الثقافي والتراثي، فقد أدرجتها المنظمة ضمن قائمة الآثار المهددة بالخطر بسبب تجاوزات جدار الفصل الإسرائيلي.  

بلدة سبسطية

وفي الوقت الذي يسعى أهالي بلدة "سبسطية" الفلسطينية شمالي الضفة الغربية لإدراجها ضمن التراث العالمي المهدد باليونسكو، رصدت الحكومة الإسرائيلية ملايين الدولارات من أجل تهويد البلدة وربطها بالرواية التوراتية.

 بلدة سبسطية لها جذور تاريخية ترجع لأكثر من 3 آلاف عام، فقد خضعت البلدة إلى حكم الآشوريين ثم الفارسيين، ومن ثم الرومانيين وحكمها الملك هيرودس اليهودي عام 30 قبل الميلاد، وهو من أطلق عليها اسم "سبسطي" أي "المبجلة"، وأغلب المباني الحاضرة تعود لعهده. وأصبحت سبسطية في العهد البيزنطي مركزًا دينيًا لوجود قبر يوحنا المعمدان (النبي يحيى بن زكريا عليه السلام). 

وتضم سبسطية مجموعة بديعة من المواقع الأثرية والتاريخية أهمها المقبرة الرومانية، وضريح النبي يحيى ومسجده، وكاتدرائية يوحنا المعمدان، وقصر الكايد، وساحة البازيليكا، والقصر الملكي، والبرج الهيلينستي، ومعبد أغسطس، والمسرح، وشارع الأعمدة، والملعب، في المقابل تعمل الحكومة الإسرائيلية على بناء سياج حول الموقع الأثري بسبسطية الذي يضم أيضا أراضي خاصة فلسطينية مزروعة بالزيتون واللوزيات، ويهدف إلى منع وصول الفلسطينيين للموقع وشق طريق التفافي استيطاني على أراضي البلدة من شأنه تخريب ونبش الموقع الأثري، ويهدف إلى خدمة المستوطنين ويساعد في سرقة المواقع الأثرية الأخرى وضمها. 

ومن ضمن ما تردد مؤخرًا على أسماعنا خلال العدوان على غزة، واحدة من أهم كنائس العالم، وثالث أقدم كنيسة فيها وهي كنيسة القديس برفيريوس، حيث يعود تاريخ الكنيسة الرومانية الأرثوذوكسية  لعام 425 م حيث أسست على أطلال معبد وثني. إنه  في القرن 12م مع قدوم الحملات الصليبية تم تجديد الكنيسة وإهداؤها للقديس برفيريوس والسيدة العذراء، ثم جُددت مرة أخرى في العصر العثماني  وتحديدًا عام 1856م، وإن كانت بعض الأفاريز وقواعد الأعمدة مازالت تعود إلى فترة العصور الوسطى. 

أما القديس برفيريوس فهو من مواليد سالونيك في اليونان سنة ٣٤٧م، وعند بلوغه سن الثلاثين، سافر لمصر وعاش فيها ٥ سنوات، ومنها سافر للقدس وزار الأماكن المقدسة فيها وحارب الوثنية، ثم انتقل للعيش في البريّة المجاورة لنهر الأردن حتى عام ٣٨٢م، حيث مرض فجأةً فجِيء به لمدينة القدس، وأقيمت صلاة خاصة من أجله، ليُشفى بعدها. 

ولم تلعب الكنيسة دور إيواء وحماية كل المدنيين جراء الاعتداء الاسرائيلي هذا العام فقط، ولكن في عام 2014 فر حوالي 2000 فلسطيني من القصف الإسرائيلي الذي أدى إلى مقتل أكثر من 70 فلسطينيًا، فلجأوا إلى كنيسة القديس بورفيريوس. أثناء القصف، كانت العائلات تنام في أروقة وغرف الكنيسة والمباني المجاورة، حيث كانت تقدم لهم أيضًا الوجبات والرعاية الطبية، إلا أن اعتداء هذا العام أدى إلى لحاق أضرار جسيمة في أجزاء من مبنى الكنيسة الأثرية، وانهيار مبنى مجلس وكلاء الكنيسة بالكامل، والذي يأوي عددا من العائلات الفلسطينية، المسيحية والمسلمة، التي لجأت إلى الكنيسة بحثا عن مكان آمن. 

ولكنيسة القديس برفيريوس مكانة خاصة عند مسيحيي المشرق والعرب عمومًا، ومسيحيي غزة على وجه الخصوص، لكون من بناها هو محارب الوثنية الأول في مدينتهم، كما كانت الكنيسة مكونًا تاريخيًا أصيلًا من مكونات الثقافة العربية الفلسطينية في التاريخ الحديث والمعاصر، حيث تسجل لهم العديد من المواقف الوطنية الداعمة للمقاومة الفلسطينية، والرافضة لسياسات ومخططات الاحتلال الإسرائيلي.

قصر الباشا

وهناك قصر الباشا، تلك تحفة معمارية نادرة والتي تقع في البلدة القديمة بحي الدرج بمدينة غزة. حيث أنه القصر الوحيد الموجود بغزة والذي يرجع إلى العصر المملوكي، كما أنه المبنى الأثري الوحيد بغزة الذي احتفظ بتفاصيله القديمة كما هي.

وقد أنشأه السلطان المملوكي البحري الظاهر بيبرس خيث يظهر الرنك الخاص به عند مدخل القصر وهو على شكل أسدين متقابلين.  استخدم القصر كمقر لحاكم غزة في العصرين المملوكي والعثماني. ولم يتبق من أبنية هذا القصر غير جزأين معماريين مُنفصلَين عن بعضهما البعض؛ الأول كان يُسمّى في العهدين الماضيين "سلاملك"، وهو لفظ عثماني يُطلق على الجزء المُخصص للرجال، و"الحرملك" المُخصص للنساء.

وفي عهد الانتداب البريطاني (1917-1948)، تم تحويل هذ القصر إلى مركز للشرطة، حيث قام الانجليز خلال فترة احتلالهم لفلسطين بتدمير معظم البيوت الأثرية بغزة، بمافقيثها القصر إذ تعرّض للتدمير المتعمّد؛ مما أدى إلى تقلّص مساحته.

وعندما آلت غزة إلى الحكم المصري بعد الانتداب البريطاني عام 1948، تحول القصر إلى مدرسة حملت إسم مدرسة فريال نسبة للأميرة المصرية فريال، ومع خضوع غزة للسلطة الوطنية الفلسطينية تم تحويل الطابق السفلي من الحرملك عام 1998 إلى متحف تحت إدارة وزارة السياحة والآثار الفلسطينية، حيث يضم مجموعة من الآثار النادرة من فخار وزجاج وأواني وأدوات زينة من مختلف العصور مثل العصر اليوناني الروماني والبيزنطي والعصور الإسلامية الأيوبي والأموي والمملوكي والعثماني، إلا أن القصر أصبح في مرمى نيران الاحتلال الإسرائيلي وهو ما عرض أجزاء كبيرة منه إلى الدمار وهو ما يصعب ترميمه أو حمايته في ظل الحرب الراهنة، وهو ما يعرض تلك التحفة المعمارية إلى الضياع وفقدان الذاكرة الإنسانية معلم هام من معالمها الأثرية والفنية. 

القائمة تزيد وتطول، ومازال الاعتداء الإسرائيلي على التراث الفلسطيني سواء كان الأثري أو الطبيعي مستمر ولا يقف، فهناك المئات من المواقع الأثرية مازات تحت مرمى الضياع والهلاك تنتظر مصير قريناتها التي أفناها الإهمال والتدمير والتهويد.  ومن هنا أدشن حملة أدعو فيها الضمير الدولي المثفف وجميع مفكري العالم الحر إلى حماية الآثار الفلسطينية من الضياع لأنها جزء من تاريخ العالم المتحضر، إن فقدناه فقدنا جزءًا هامًا من إنسانيتنا.

اقرأ أيضًا..

الفائز بجائزة "الكتاب العلمي": الخوارزميات القاتلة في العلاقات الدولية تفوق تاثير القنبلة النووية