رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الهوية المصرية.. والمناعة الثقافية

سعيد جدًا بكل المحاولات التى تُبذل من جانب أجهزة الإعلام والثقافة فى الفترة الأخيرة لدعم الهوية الوطنية، وفى القلب منها الهوية الثقافية والحضارية.. حيث الاقتراب من فكر وأطروحات وشهادات رموزنا على الحاضر وأحلامهم للمستقبل عبر برنامج «الشاهد» مع الإعلامى الأكاديمى القدير «محمد الباز»، وندوات ثقافية وحضارية بالغة الأهمية يديرها بجدارة الإعلامى نشأت الديهى عبر برنامجه «المشهد» وحلقات وندوات فكرية عبر برنامج «المساء مع قصواء» مع الإعلامية المتميزة قصواء الخلالى.. ومع الإعلامية والروائية الرائعة د. صفاء النجار نتابع حلقات مهمة وبديعة واستضاءات للتنوير عبر برنامجها المهم «أطياف».. التحية واجبة للشركة المتحدة وأهل إبداع تلك الحالة من التجدد والتطوير والتنوير..
معلوم أنه إذا كانت الهوية باتت كاشفة لماهية مواطننا، وحيث الهوية الثقافية صارت العنوان لفكره ومعارفه وتاريخه وحضارته، ففى النهاية والمحصلة تبقى الهوية دالة ومعبرة عن ثقافته بكل مكوناتها فلكل ثقافة هوية وثقافة من غير هوية عدم ولا وجود لها، وبمقدار تعدد وتباين الثقافات تتعدد الهويات وتتباين.
وتظل هوية الثقافة هى الثابت من الخصائص والمكونات لا المتحول فى الثقافة المميّز لها عن غيرها من الثقافات الأخرى، ومن جهة أخرى تتصل الثقافة بالهوية اتصالًا علّيًا، اتصال المعلول بالعلة، فالثقافة علّة وجود الهوية.
قبل أن أغلق صفحة الفسبوك فى نهاية تعاملى معها، بالأمس، لفت انتباهى وجود صورة ملونة لخمس تفاحات على صفحة صديق فيسبوكى شاب كــ«بوست»، وكتب تحتها «خمس تفاحات غيرت التاريخ.. الأولى أكلها آدم فأخرجته من الجنة.. الثانية وقعت على رأس نيوتن فكان اكتشاف ظاهرة الجاذبية الأرضية.. الثالثة اتخذها «ستيف جوبر» شعارًا لأكبر شركة حاسبات (أبل) التى غزت العالم كله بمنتجاتها الشهيرة الناجحة.. أما الرابعة والخامسة فكانت من نصيب العرب واللى عملوا منهم معسل (أبوتفاحتين )».. إنجاز!! 
«البوست»، ومثله المئات من تلك النوعية من الإسهامات الفيسبوكية اليومية تنتزع ضحكات أولادنا وآهات التفاعل الإيجابى التى تترجمها «لايكات» وتشييرات» شبابنا لمزيد من النشر المثير بلغة وتعريفات دنيا وسائط التواصل الاجتماعى.
وللأسف، وحتى تاريخه لم يدرك الكثير منا ما تؤشر له مثل تلك «البوستات» من رسائل داعمة لنشر مشاعر الإحباط والروح الانهزامية لدى أطفالنا وشبابنا، وفى مواجهتها نرى مناهج وزارة التربية والتعليم تبالغ بشكل يثير فى أحيان كثيرة الشعور بالتبرم والانفصال عن الواقع عند اعتماد تدريس نصوص وأناشيد ومقطوعات نثرية ومناهج للتاريخ والجغرافيا والتربية الوطنية تنسج فى مجملها رسائل مبالغ فى صياغتها عن عوالم أسطورية لبطولات الآباء والأجداد التى تدعمها أشعار وحكاوى الفخر والحماسة والوطنية بأمجاد الماضى رغم صدق معظمها، ولكن لا يصدقها أبناء الجيل الحالى لركاكة العرض وهشاشة المتن التربوى!!
ويبقى التحدى والسؤال الأهم: كيف سنواجه أو حتى نتكيف مع ما تطرحه مخرجات وإنجازات ماكينات الإنتاج الثقافى والحضارى والعلمى العالمى؟
لقد انشغلت مواقع التواصل الاجتماعى بأمر عقد مقارنات أحوالنا بأحوال الغير، بدلًًا من تقدير ما نمتلك وما نحن عليه ووضع الخطط العلمية لاستثمار كل الإمكانات المادية والعلمية لبناء إنسان المستقبل القادر على المنافسة والاشتباك الإيجابى مع الآخر المتقدم.
معلوم، أنه مع كل طلعة شمس يقدم لنا العالم معطيات جديدة لواقع مذهل يتشكل وينمو، الكثير من تلك المعطيات كفيل بتشكيل ملامح عالم جديد يفرض نفسه علينا، أو على الأقل قادر على تغيير الكثير من مفاهيمنا وتصوراتنا عن أمور كنا نراها ثوابت ونأمل أن نبنى عليها، فإذا ببعضهم يقدم لنا وللعالم البدائل الأفضل أو الأكثر قدرة ومنفعة للتعامل الأسرع أو الأقوى أو الأكثر نجاحًا وأغزر انتاجًا إيجابيًا.
وهنا يبرز السؤال، هل لدينا ثقافة المواجهة الفاعلة والتعامل السلس البناء، أو ما يطلق عليها مقومات «المناعة الثقافية» الكفيلة بالتعامل مع المعطيات الجديدة والقادرة على عمليات الفرز الإيجابية ورفع المناعة الثقافية على المستوى الجمعى؟ 
وفى مواجهة ذلك السؤال عند طرحه على أرض الواقع، ينبغى إدراك أننا أمام مجموعة من التحديات فى مواجهة دنيا وعالم متعدد المفاهيم القيمية والعلمية، وعلينا الانفتاح الموضوعى ورفع شعار «نعم نستطيع»، دون التعرض لتيبس مفاصل الحركة بدعوى الحفاظ على الهوية والتراث والقيم والأصول، فالدول التى تمتلك «المناعة الثقافية والفكرية» قادرة على الفرز الإيجابى والتعامل العلمى الفاعل مع المعطيات الجديدة؛ مهما كانت درجات الصعوبة الناشئة من حالات التباين بين القوى المتنافسة.
بدون هوية اجتماعية وثقافية ينسلخ الناس عن بيئاتهم الاجتماعية والثقافية، بل عن أنفسهم تماما، ودون تحديد واضح للآخر لا يمكنهم تحديد هوياتهم الاجتماعية والثقافية، ويشير «برهان غليون» إلى أنه «لا تستطيع الجماعة أو الفرد إنجاز مشروع مهما كان نوعه أو حجمه، دون أن تعرف نفسها وتحدد مكانها ودورها وشرعية وجودها كجماعة متميزة، فقبل أن تنهض لا بد لها أن تكون ذاتًا».
وعليه، أتفق مع ماجاء فى تعريف المفكر «د. سعيد إسماعيل على» حول المقصود بالهوية بأنها «جملة المعالم المميزة للشىء التى تجعله هو هو، بحيث لا تخطئ فى تمييزه عن غيره من الأشياء، ولكل منا- كإنسان- شخصيته المميزة له، فله نسقه القيمى ومعتقداته وعاداته السلوكية وميوله واتجاهاته وثقافته، وهكذا الشأن بالنسبة للأمم والشعوب».
وقد ذكرت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم أن الهوية الثقافية هى «النواة الحية للشخصية الفردية والجماعية، والعامل الذى يحدد السلوك ونوع القرارات والأفعال الأصيلة للفرد والجماعة، والعنصر المحرك الذى يسمح للأمة بمتابعة التطور والإبداع، مع الاحتفاظ بمكوناتها الثقافية الخاصة وميزاتها الجماعية، التى تحددت بفعل التاريخ الطويل واللغة القومية والسيكولوجية المشتركة وطموح الغد».