رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فاروق عبدالقادر.. الناقد المسرحى الذى قال لا

الناقد الذى قال لا لتدهور وسقوط المسرح المصرى بعد أن عاش معه حقبة الازدهار وعصر النهضة، الذى قال لا للمسرح حين ابتعد عن قضايا الواقع وأسئلة اللحظة الراهنة، وبدأ يخضع لنزوات الممثلين، وأهواء مخرجى القطاع الخاص، الذى قال لا للعروض التى يتم تقديمها للمقاعد الفارغة، وفى القاعات المظلمة، تحت لافتة التجريب والمدارس المسرحية الحديثة، بعد أن عاش وقدم للقارئ أسباب الازدهار وعوامل السقوط، هو الناقد الذى احتج ورفض المهرجانات، حين أصبحت لها أولوية على العروض المسرحية، وحين أصبحت الغاية وخرجت عن كونها وسيلة، وجاءت عناوين كتبه؛ لتؤكد هذا الموقف، ولكن ظل متمسكًا بالأمل «نفق معتم ومصابيح قليلة، مساحة للضوء مساحات للظلال- ازدهار وسقوط المسرح المصرى»، فرغم العتمة ثمة ضوء ولو قليل، ورغم الظلال ثمة مساحة للضوء، والسقوط لا يخلو من ازدهار، الناقد الذى خاض المعركة تلو الأخرى، ليس ضد كاتب أو مخرج أو ممثل أو مهندس ديكور أو حتى عرض مسرحى، بل ضد من أهانوا المسرح، ضد من انحازوا للزيف على حساب الحقيقة، من انحازوا للقبح على حساب الجمال.
فاروق عبدالقادر «٢٤ يناير ١٩٣٨- ٢٣ يونيو ٢٠١٠»، الذى عرفته مطلع التسعينيات، ورغم أننى درست المسرح مع آخرين، إلا أننى تعلمت منه خارج قاعة الدرس أن أقول لا.. وأن الكاتب ضمير عصره وإذا فقد ضميره فلا قيمة حتى لعلمه، عانيت كثيرًا من دروس فاروق عبدالقادر، لكنى سعيد بما تعلمته منه، هذا الكاتب الذى عاش حياة عنوانها القسوة والمعاناة حتى النفس الأخير، أصاب وأخطأ كغيره، لكنه لم يحصد كغيره ثمار المعاناة، فقط جنى القسوة والأحزان، انحاز للمدرسة الواقعية فى النقد؛ لأنها تعبّر عن هموم الجمهور، بل انحاز إلى الجمهور على حساب المنهج فى أحيان كثيرة، هو ابن الحقبة الليبرالية التى دفعته إلى التنقل بين العديد من الاتجاهات السياسية، ولم ينتم إلى أى تيار سياسى أو مؤسسة ثقافية، فقط كان ينتمى لأحلامه وطموحاته، ومشواره يكشف عن حياة قاسية وصاخبة. 
جاء كتابه الأول عام ١٩٧٩ «ازدهار وسقوط المسرح المصرى» حدثًا مدويًا يشرح أسباب الازدهار ويؤكد أسباب السقوط، وللتاريخ دلالة قوية، حيث أصبحت ملامح المسرح المصرى واضحة، بعد أن سقطت الأقنعة وولت سنوات الازدهار المزعومة، إذ بدأ قطار المسرح يضل طريقه وبقوة فى منتصف السبعينيات، وكأن سنوات الازدهار الماضية لم تكن سوى حلم أو قُل «وهم»، وفاروق عبدالقادر أحد شهود العيان على تلك الفترة والمخلصين لها، وتوالت أعماله التى جاءت بمثابة شهادة حية تجسد صعود وهبوط المسرح المصرى منذ ستينيات القرن الماضى حتى العقد الأول من الألفية الثالثة، ربما لم يقرر أن يكون ناقدًا مستقلًا، إلا أنه انحاز إلى هذه الفكرة، حين تحالفت كل الظروف لتجعله خارج المؤسسة الثقافية، على الرغم من أن مشروعه النقدى قد تأسس متأثرًا بمشروع يوليو ١٩٥٢، بل البعض رأى أنه خرج من رحم هذه الثورة، إلا أن تلك المرحلة لم تنحز له أو تنصفه، صاغ مشروعه وفق هذا الزمن، فخذله، ومع هذا ظل يحن إلى أبطاله حتى رحيله، لم يتخلَ عن قناعته بدور الكاتب فى المجتمع ويقظة ضميره، فدائمًا ما كان يبحث عن علاقة الفنان بالمجتمع فى كل الأعمال التى كتب عنها. 
اعتزل المسرح، وعلى الرغم من أنه مارس الكتابة عبر النقد الأدبى فى تسعينيات القرن الماضى والعقد الأول من الألفية الثالثة، فإن المسرح كان غُصَّة مريرة يحملها أينما ذهب، فاعتزل وعاش بين الكتب يقرأها ويكتب عنها، سألته قبل رحيله بعام فى ٢٠٠٩: ماذا يعنى المسرح بالنسبة لك الآن؟، وماذا تتذكر منه الآن؟ وكنا وحيدين فى المقهى قبل أن يأتى رواد لقاء الأحد الأسبوعى، كان كلانا ينظر إلى الميدان، وأذكر أننى شعرت فى تلك اللحظة بأنه يجلس فى مقعده متفرجًا يشاهد الميدان مسرحًا كبيرًا، أسلم عينيه للمارة وسرح ببصره بعيدًا وقال لى: «ما أتذكره الآن المثل القائل بأن الدودة فى أصل الشجرة، والخيانة من المسرحيين أنفسهم، فلو أخلص المسرحيون لمهنتهم لما حدث ذلك»، وهنا أتذكر وأعنى كرم مطاوع وسعد أردش، حين انحازا للمناصب، وأصبحت مغازلة السلطة أهم من المسرح، والأولوية للمنصب، وكانت أمام هؤلاء وغيرهم الفرصة لردم الهوة بين الجماهير والمسرح، لكنهم ساعدوا على اتساعها، حيث كانت هناك أجنة تجارب مسرحية، بدءًا من- ممغاطيس- نعمان عاشور ووصولًا لأعمال محمود دياب، ولكن خيانة المسرحيين أصحاب المناصب أجهضت هذا المشروع.