رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بَيض بالبَسْطِرْمة

جريدة الدستور

لتَلبِية الدعوة، مساءً اصطحب زوجته وابنته صاحبة الأربع سنوات، وطِفله الرَّضيع النائم إلى شقة زميله المتزوّج حديثًا، حمل فى يده عُلبة شوكولاتة كبيرة وفاخرة، تبادلا التحيَّة والسلام، ثم جلس الرَّجلان يَتجَاذبان الحديث، يتطرقان من مشكلات عملهما فى البنك إلى تصرُّفات العُملاء الطريفة المُضحكة أحيانًا، والتحوُّل السريع الخانِق لأسوان، بثلاثيةٍ من البشر والسيَّارات والأَرصِفة الضيِّقة، مما جعل مدينتهما أسوأ مَسخ مُصغَّر من مَسخ سيئ كبير يُسمى القاهرة.

التقاؤُهما لأول مرة لَم يمنع الأحاديث الودية بين الزوجتين؛ فبسؤالٍ بسيط من العروس، قدمتْ الضَّيفة خبرتها من النصائح والحِيَل التى تَكسب بها قلب وودَّ زَوْجها وأهله.

بعد الكَاكاو الساخن، جاء دور العشاء الساخن، مائدة متوسطة الحجم، امتلأت بمأكولات خفيفة تصلُح كطعامٍ للعشاء- حسب الاتِّفاق المُسبق- جلستْ الأسرة تُبسمل وشَرعوا فى الأكل، ولكن عندما رأت الابنة طَبق البَيض بالبَسْطِرْمة- كبير الحجم- صاحتْ فجأة: «بابا يأكل البَيض باللانشون»، أربكتْ الصغيرة الحِسابات؛ وبإشارة من الزَّوْج المُضيف هَمَّت زَوْجته بالقِيام، لكن إِصرار وتأكيد الضَّيْفين بأنه لا مشكلة لديهما فى أى مأكولات، خاصة البَسْطِرْمة، أَثناها عن القيام. 

إفراغُ الأطباق- تقريبًا- كان دليلًا ملموسًا على حُسن المذاق، واستمتاع الضُّيوف بالدعوة، فى النهاية أحضرتْ الزَوْجتان كُوبين من الشاى بالقُرنفُل للرجلين. عند الاستِئذان بالرحيل انتابَهم جميعًا شعورٌ بالارتياح وإحساس بصداقة أُسرية قوية ستجمعهم بعد هذه الليلة.

فى طريق العودة، بمجرد أن دخلتْ الطفلة السيارة غاصتْ فى النوم، أما الرجل فراح يَقُود وهو لا يَنبِس بحرفٍ طَوال الطريق، على غير عاداته، الزَّوْجة لاذَت بصمتٍ عميقٍ هى الأخرى، وكأنها اطَّلعت على الدائر برأس زوجها، وتفهمتْ أمره، وتَمَنتْ ألا يَستيقِظ الطفلان حتى لا تُثار أعصابه؛ بالتأكيد هو يختلى بنفسه، مع ما حدث لها منذ أكثر من ثلاثة وعشرين عامًا، فى الصف الخامس الابتدائى عندما أحضر صديقه ساندوتشات البَيض بالبَسْطِرْمة، أما هو فقد اعتادَ جلب ساندوتشات الجُبن الأبيض معه، ليلًا أخبر أمه برغبته فى أكل ساندوتشات مثل التى يَجلبها رَفيقه، وسألها عن ماهيَّة البَسْطِرْمة، أجابته ووعدته بتنفيذ رغبته قريبًا.

فى اليوم التالى طلب من صديقه أن يتذوَّق طَعامه، فرفضَ، انفطر هذه المرة قلبه من البكاء فى البيت أمام أمه، التى وضَعتْ طرحتها السوداء، وذهبتْ فى الحال، إلى بقَّالٍ بعيدٍ عن بيتها، مُستفسرة عن ثمن كيلو البَسْطِرْمة، وعندما صدَمَها السعر، قررتْ العودة وشراءها عند قَبضِ المَعَاش، ولكن ثَمّة فكرة ما بادرتها، واستوقفتها؛ بما أن البَسْطِرْمة تُصنع من لَحمٍ مُتبلٍ قبل أن يتم قَليُه، فلماذا لا تقوم بقلى اللانشون؟ وتضعه فى ساندوتشات البَيض لابنها. فوضعتْ شرائِح اللانشون فى الزيت الساخن حتى اسودَّ لونها، وتَمَاسك قوامها، ووضعتْ عليهم البَيض الأصفر المَخفوق، تذوَّق ابنها هذا الخلِيطَ، فأعجبه طَعمُه، أخبرته أن هذا هو البَيض بالبَسْطِرْمة.

فى أول الشهر أحضرتْ الأم ربع كيلوجرام من البَسْطِرْمة، وجَهَّزتْ ثلاثة ساندوتشات لابنها، ولكنه للغرابة، لم يُعجبه طَعمُها، وطَالبها بإعداد السندوتشات التى اعتاد عليها بعد ذلك، ضحكتْ الأم، واعترفتْ له أن ما لَم يُعجبه للتَو هى بَسْطِرْمةٍ حقيقية، صارحَته بضِيق حالتهم، وعن مَعَاشِ أَبِيه الذى يُنفق قبل أن يَنتهى الشهر، وأنه أصبح رجل البيت وعليه تَحمُّل المسئوليات، فلا يَنبَغِى تَقليد زملائه فى كل شَىء، فلكل أسرة ظُروفها، وهى بالكاد تَتدبَّر أمور المَعِيشة حتى لا تَمد يَدها لأحدٍ، وإنها تنتظر الوقت الذى ستَتزوَّج فيه أخته، ويَدخُل هو كلية الشُّرطَة كما تَمنى أبوه.

هذا اليَوم أصبح فارقًا فى كل تصرُّفاته بعد ذلك؛ عاد لا يَطلُب أى شىء تقريبًا؛ حذاؤه المُهتَرِئ الذى بات يُعيق حركته، لَم يُفكر حتى فى إصلاحه، حتى اشتَرتْ له أمه آخر جديدًا، أصبح يكتفى بسندوتشات الجُبن والفول ولا يَطلُب أبدًا بديلًا عنهما، يَرقُب صديقه على دَرّاجته الجديدة، فتُداهمه رغبةٌ بضربه، يمسِك نفسه ويتجنب الحديث أو اللَّعِب معه لِئلَّا يَطِيش لُبُّه، ومن ثم ابتعَد شيئًا فشيئًا عن صُحبته، وكيف مرت الأيام بعد ذلك عليهم، لتَتزَّوج أخته، ويلتحق هو بكلية التجارة، ثم يتم تعيينه ببنك خاص، فيشترى من أول مرتب كيلو كامل من بَسْطِرْمة، قبل أن يُناول ما تبقَّى من مرتبه لأمه، ويأخُذ هو مَصروفه منها، كيف فشل بعد ذلك فى إقناع ثلاثة من أصدقائه، وأخته وأمه وزوجته أن طَعمَ البَيض باللانشون أفضل من طَعمِ البَيض بالبَسْطِرْمة، وحَدِيثه أن البَسْطِرْمة تُرسب الأملاح على الكُليتين، ووصفه لها باللاذِعة المُضرة. فى بداية زَواجه كان أهم ما يسأل عنه البَسْطِرْمة، لَم يسمح لها أن تنفد قط من بيته، رغم أنه لا يأكُلها! عندما فقد أمه من سنتين، كل ذلك تغيّر وأضحى لا يشتريها ولا يُحب الكلام عنها، ولا حتى ذِكر اسمها أمامه. عندما وصلت السيارة إلى العمارة ذات المدخل الرخامى المصقول رَكَّنها، وراح يَحمِل ابنته على كَتِفه إلى المِصعَد، وبدخولهم الشَّقّة، نطَق بأول كَلِماته أنه ما زال يَشعر بالجُوع، وطَلب من زوجته طَبقًا صغيرًا من البَيض باللانشون.