رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحوار الوطنى.. وإشكالية التنوير

بالتأكيد لدينا فرصة عظيمة أن نجتاز كل مرارات مراحل الإحباط السابقة لدعم كل الجهود والبرامج الموضوعية للتعامل مع إشكالية التنوير فى ظل إرادة سياسية داعمة لنشر قيم التنوير وتوطينها فى زمن ولاية رئيس آمن وطالب بالإصلاح الثقافى والإعلامى والدينى، والأهم إيمانه بدور العلم فى تحقيق التقدم وإنجاز المستحيلات. 

فى عهد الرئيس «السيسى» كان الذهاب إلى العلم والتفكير العلمى فى تطوير منظومات الصحة والتعليم والبحث العلمى والآثار.. وكان الذهاب لتشييد مدن الدواء والأثاث، والمجمع المتكامل لإصدار الوثائق المؤمنة والذكية، وزراعة بالنظم الرأسية فى صوب عصرية، ومزارع سمكية رائعة، وكان دخول جامعاتنا منافسات جداول الترتيب بعد خروجنا غير المشرف أبدًا على مدى حقب عديدة من كل التنافسات العلمية.

وبعد كل النجاحات التى حققها «الحوار الوطنى»، وبشكل حاص فى كل ما يدعم أمور الهوية الثقافية وتضويب الخطاب الدينى والموافقة على إجراء خطوات تنفيذية لإنشاء «مفوضية عدم التمييز الدينى» التى نص على وجودها الدستور، أرى أهمية استكمال العمل عبر جلسات الحوار الوطنى المقبلة «بعد إشارة السيد الرئيس لبدء جولة جديدة من الجلسات» حول السعى لإنجاز خطاب تنويرى جديد يبعث الحيوية والحداثة فى ثقافتنا التقليدية كلها، وليس فى مكونها الدينى فقط، الذى ندعو إلى تجديده منذ أمد بعيد دون نتائج محسوسة، دعمًا لجهود المعنيين بقضية التنوير بصدق وإخلاص، والدعوة إلى أن نراجع معًا فى جلسات الحوار الوطنى المقبلة أسباب القصور فى تنوير المجتمع، والاعتراف بالحاجة إلى تغيير جذرى لمحتوى خطابنا التنويرى وأساليب تقديمه، والسعى إلى توفير البيئة الثقافية والفكرية السامحة باستيعابه.

وفى إطار مراجعة ما سبق من جهود فى ذلك السياق، تستدعى الأمانة طرحه بصورة مباشرة، توضح المشكلة وتسعى إلى وضع الخطط والبرامج الزمنية وتحديد والإشارة للجهات المنوط بها المشاركة فى وضع محددات تلك البرامج وأهدافها.

معلوم أن للفيلسوف الألمانى العظيم «كانْت»، الذى يقف عند قمة التنوير فى القرن الثامن عشر مقالًا عنوانه «جواب عن سؤال: ما التنوير؟» «1784م»، ويمكن إيجازه فى شعاره القائل: «كن جريئًا فى إعمال عقلك». وقد كان يقصد به أنه لا سلطان على العقل إلا العقل نفسه. وترتب على ذلك القول بأن قياس مدى التنوير مردود إلى مدى سلطان العقل.

أذكر فى سياق جهود التفاعلات العلمية مع قضايا التنوير انعقاد «مهرجان ابن رشد» بتنظيم من الجامعة العربية والحكومة الجزائرية فى نوفمبر من عام 1978م فى الجزائر، وإذا بأبحاث المهرجان، فى معظمها، تُضعف من شأن العقل عند ابن رشد. مثال ذلك بحث الدكتور عبدالكريم خليفة رئيس مجمع اللغة العربية الأردنى؛ إذ يقول: إنه يجب إخراج الصراع الفلسفى بين الغزالى وابن رشد من مجال البحث الفلسفى الرصين؛ لأنه ينطوى على نبرة انفعالية، فى حين أنه كان الصراع التاريخى الذى حدد مسار العالم العربى فى اتجاه الأصولية الدينية التى تبطل إعمال العقل فى النص الدينى، وبالتالى فى النصوص الأخرى أيًّا كانت.

ولكن يبقى للإبداع ورموزه المصرية الأصيلة الباقية الدور التاريخى المحرض قبل الثورة وبعدها لرفض من يشوهون الواقع، فى قراءة وطنية رائعة لتركيبة شعبنا العظيم.
وعلى مدار التاريخ كان هناك صراع جدلى تفاعلى عملى بين العقل الدينى والعقل الفلسفى، وبات يجمع أهل الفلسفة ودعاة التنوير على أنه لم يعد هناك عصف ذهنى أو صراع تفاعلى حر فى الساحة الدينية؛ لأن أحد طرفى المعادلة، أى العقل الفلسفى، هُمش، بل تم تكفيره فى أحيان كثيرة. وبموت العقل الفلسفى حصل جمود للعقل الدينى، فأصبح فقيرًا جدًّا من الناحية الفكرية؛ لأن الفلسفة لم تعد موجودة لكى تغذيه وتستفزه وتدفعه إلى المزيد من النضج والانفتاح، ومن ثم فلا بد من إعادة الاعتبار إلى الفلسفة والعقل الفلسفى إذا ما أردنا النهوض واستعادة العصر الذهبى مرة أخرى.