رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

د. هدى زكريا أستاذة الاجتماع السياسى: مصر أمة روّضت الخطر وما نعيشه الآن يشبه لحظات تاريخية كثيرة انتصرنا عليها

الدكتور محمد الباز
الدكتور محمد الباز وهدى زكريا

- قالت: حين يُهزم المصرى عسكريًا ينتصر ثقافيًا وملامح شخصيته لا تذوب فى المحتل

- مقولة «عيسى نبى.. وموسى نبى» ترسيخ للديمقراطية وبسببها أصبحت أول امرأة تحاضر فى الكلية الحربية

- برنامج «الشاهد» هو «حرس سلاح ثقافى» يحافظ على الأمة وملامح شخصيتها من الاختراق

- تماسك الشعب المصرى نتاج لخبراته التاريخية وهو ينظر لـ«البدلة الكاكى» نظرته للأيقونات الدينية

- فى 2013 رفض السيسى أن يصبح رئيسًا فقلت له: «اللحظة ستفرض نفسها وهذا ليس اختيارًا شخصيًا»

- جيش نابليون نصب المدافع ضد الناس أثناء الثورة الفرنسية وجيشنا حمى الشعب وكنا «بنتصور ع الدبابة»

قالت الدكتورة هدى زكريا، أستاذة علم الاجتماع السياسى، إن المخاطر التى تتعرض لها مصر حاليًا تشبه ما مرت به وانتصرت عليه فى فترات تاريخية سابقة، مؤكدة أن مصر استطاعت دائمًا أن تنتصر على الخطر وأن تروضه، وأن تحافظ على انتصارها الثقافى دون أن تذوب شخصيتها حتى أثناء الهزائم العسكرية، نظرًا لتماسك شعبها، الذى هو نتاج لخبراته التاريخية الممتدة.

وأوضحت، خلال حديثها إلى برنامج «الشاهد»، الذى يقدمه الإعلامى الدكتور محمد الباز على فضائية «إكسترا نيوز»، الذى تنشر «الدستور» جزءًا منه، أن مقولة «عيسى نبى.. وموسى نبى» التى يرددها المصريون تعد ترسيخًا لمفهومهم عن الديمقراطية والحريات الدينية، لافتة إلى ذكرها هذه الحقيقة أثناء إحدى الندوات التثقيفية للقوات المسلحة فى عام ٢٠١٣ كان سببًا فى تغيير القوانين لتصبح أول امرأة فى التاريخ تحاضر فى الكلية الحربية المصرية، للحديث عن العلاقة الفريدة بين الشعب المصرى وقواته المسلحة التى ظلت دائمًا عصية على الاختراق ولم تعرف أبدًا ظاهرة «جيوش المرتزقة»، التى عرفها كثير من دول العالم.

■ كيف ترصدين حالة الشعب المصرى فى تفاعلاته الاجتماعية والحضارية؟

- فى البداية أحب أن أطمئن نفسى الآن بمثل شعبى يُقال عن مصر ويحدد ملامح الشخصية المصرية، وهو «مصر خرطها الخراط واتمدد مات»، وهذا لأن مصر أمة عاشت فى خطر، فهناك ٤٠ أمة حاربتها منها أمم كانت أقوى منها عسكريًا، وكانت تهزمها وتحتلها.

وفى تاريخ المنطقة، كان من المفروض أن تنتهى مصر، فهناك أمم احتلتنا بقوة عسكرية غاشمة، وعندما تبحث عنها الآن فى قائمة الأمم المتحدة لن تجدها، لأنها زالت من التاريخ وبقيت المحروسة، فأين التتار والرومان والفرس الآن؟، هل هم أعضاء فى الأمم المتحدة؟، لكن مصر المحروسة بحثت عن كلمة سر البقاء والاستمرار، وقررت أن تبقى وتستمر بطريقتها الخاصة، وعندما كانت مصر تواجه خطرًا كانت تستطيع ترويضه، وكما قلت هناك ٤٠ أمة تسببت فى خطر لمصر واستطاعت مصر ترويضها وهزمتها وطردتها.

وظلت مصر لها بصمة على الأمم التى حاربتها وانتصرت علينا، وأخرجتها من التاريخ، فالمصرى عندما يُهزم عسكريًا ينتصر ثقافيًا، ليقول إن ملامح شخصيته لا تُلمس ولا تذوب فى المحتل، فالمصريون جعلوا الإنجليز مثلًا يتحدثون العامية المصرية، لذا أنا سعيدة جدًا بفكرة برنامج «الشاهد»، وأطلق عليه «حرس سلاح ثقافى».

■ ما المقصود بـ«حرس سلاح ثقافى»؟

- الجندى فى الجيش الذى يقف سهران أثناء راحة زملائه يهتف «حرس سلاح» عندما يرى العدو قادمًا، وبرنامج «الشاهد» هو «حرس سلاح ثقافى» يستطيع الحفاظ على هذه الثقافة فلا يتم الإضرار بها، لأن أعداء مصر يذاكرون جيدًا، ومنذ آلاف السنين، من أجل اختراق مصر، لأن الأرض والسلاح والجيش عصية دائمًا على الاختراق، لكن الخطر دائمًا يكون على العقل.

لذلك، أتمنى استمرار برنامج «الشاهد»، ليستمر فى دور «حرس سلاح ثقافى» للحفاظ على ثقافة الأمة وعلى تعليم أبنائها وعلى ملامح شخصيتها من أن تُخترق.

■ كيف يحقق المصرى الانتصار الثقافى على عدوه؟

- من زمان ولدينا «عصيان ثقافى»، فعلى سبيل المثال يأتى الجندى الهكسوسى للفلاح المصرى، فيقول المصرى له: «لا أفهم لغتك.. هل يمكن أن تتحدث لغتى؟»، فيتعلم الهكسوسى لغتنا، بالإضافة إلى الزى والأكل، فيتحول ثقافيًا ويفقد هويته وملامح شخصيته، أما الفلاح المصرى، الذى من المفترض أنه مهزوم عسكريًا، فهو لا يمكن الوصول إليه ثقافيًا.

وهنا يجب أن نتحدث عن الذين صنعوا النهضة المصرية عندما فهموا طبيعة الشخصية المصرية، وقد قلت هذا للرئيس عبدالفتاح السيسى، عندما كان وزيرًا للدفاع، وكان رافضًا بشدة أن يصبح رئيسًا للجمهورية وقال لى وقتها: «لن أغير الزى العسكرى»، فقلت له وقتها: «إن هناك لحظة تاريخية تفرض نفسها، وذلك لن يكون اختيارًا شخصيًا، فمصر تعرف جيدًا أن جيشها نزل من رحم الأمة، فالجيش ابن الأمة، ولذلك فنحن نستغيث بهذا الجيش».

وقبل انتخابات ٢٠١٣ قلت إن الرئيس المقبل سيكون مخلصًا ومبدعًا ووطنيًا، وسيلبس «البدلة الكاكى»، ولذا فإن الرئيس السيسى جاء فى لحظة تاريخية ليقود سفينة الوطن.

■ كيف تنظرين إلى الشعب المصرى ووضعه الآن؟

- اللحظة التى تعيشها مصر الآن تشبه لحظات أزمات كثيرة، فمصر واجهت تلك اللحظات الصعبة حتى قبل أيام «الشدة المستنصرية» وأيام الحملة الفرنسية أيضًا، وكانت الأمور تصل بالناس إلى حد المشاحنات مع بعضها فى الشوارع، وجاء محمد على، الذى كان ضابطًا ألبانيًا صغيرًا يحلم بالمجىء إلى مصر والعيش فيها لأنه يعرف شعبها جيدًا، وأثناء نزوله إليها مع الحملة الألبانية وجد جثث المصريين فى الشوارع، فقال إنه يستطيع أن يبدأ مشروعه بنصف الشعب المصرى فقط؛ لأنه كان يعرف طبيعة هذا الشعب جيدًا.

ورغم أن المشهد فى عام ١٨٠٥ كان صعبًا جدًا فإنه فى عام ١٨١١ وصلت حدود مصر حتى إثيوبيا وسيطرت عليها وأخذت شبه الجزيرة العربية، وهددت الأستانة، التى كنا تابعين لها وقتها.

ولذلك، فإن مَن يقرأ الشخصية المصرية جيدًا لا بد أن ينتصر، فالمصريون واجهوا ما هو أصعب من ذلك، وانتصروا فى النهاية، والمصريون الذين ماتوا فى الشوارع أصبح لديهم أعظم جيش حاليًا، لذا لا أشعر أبدًا بالخطر، لأننا أمة روّضت الخطر نفسه.

■ كيف استطاعت مصر التماسك وترويض الخطر عبر التاريخ؟

- المصريون القدماء أقسموا قسمًا اجتماعيًا على ألا يتصارعوا قط، والملك مينا وحّد القطرين لكى لا يتصارعا، فلا أحد متماسك مثل الدولة المصرية، وجاء التماسك نتاجًا للخبرة المصرية الممتدة عبر السنين، كما وصلوا إلى إدراك حكمة «إنما الأمم الأخلاق ما بقيت.. فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا»، ولأن الصراع ليست به أخلاق قرر المصريون منذ القدم أن يكونوا أخلاقيين لأقصى مدى، وكتبوا أخلاقهم فى «قوانين ماعت» ونقشوها على جدران المعابد.

والشاعر عبدالرحمن الأبنودى قال: «إن مصر مثل عود الذرة فى غيط كمون»، وكان يقصد أن الكمون قصير لكن عود الذرة طويل، فحولنا دول يتم تقسيمها، لكن مصر متماسكة بسبب خبرتها الممتدة، وبسبب البدلة الكاكى، التى ليست لجيش يقف على الحدود فى ثكناته العسكرية وإنما يندمج مع أبناء شعبه، والأبنودى قال: «جيش مصر رباها على كيفه.. الجيش يحمى شعبه والشعب يحتمى بجيشه».

كما قال الجغرافى الكبير الدكتور جمال حمدان: «وراء كل بدلة مدنية عند المصرى هناك بدلة عسكرية، مستعدة لكى تقلب كاكى، ووراءها بدلة مدنية، لينهى مهمته العسكرية ويعود للمدنية»، ولذا فنحن نعتمد على الجيش، ونعرف أنه فى اللحظة المناسبة سيتدخل وينصر المدنى، وهى مسألة تاريخية.

■ هل هناك شواهد لذلك عبر التاريخ؟

- فى عام ١٩٦٧، عندما تلقينا الضربة، كنت طالبة اجتماع بالصف الأول الجامعى، وعندها ذهبت أنا مع بعض صديقاتى للتدرب على السلاح، وكانت الفنانة صفاء أبوالسعود برفقتنا، وعندما طلبنا التدرب على المدافع والقنابل ضحك رجال الجيش على طلبنا، وقالوا لنا: «تدربوا على التمريض»، فقلت لهم: «لكننا الظهير المدنى يا أفندم».

وبالفعل، أصررنا وقتها على التدريب وتم تدريبنا على سلاح «الكلاشينكوف» بطلقات فارغة أولًا لمدة أسبوع، وبعدها حذرنا أحد الضباط من أن الضرب سيكون بطلقات حقيقية، وكنت وقتها أرتدى نظارة، لكنى أجدت فى تصويب ٤ طلقات على الهدف، فقال الضابط: «أم أربع عيون جابت أربعة أهداف»، وبعدها قال لنا: «سنرسلكم على الجبهة أثناء حرب الاستنزاف»، فسألته كيف ذلك وقد تدربنا على أهداف ثابتة ولم نتدرب على أهداف متحركة؟، فقال: «البنات بيتكلموا بلهجة عسكرية».

وهذا هو إحساسنا بالبدلة العسكرية، فأنا امرأة لم أحارب ولن أحارب، ولكنى أنظر لـ«البدلة الكاكى» مثل المسيحى عندما يدخل المذبح وينظر للأيقونة بحب وهو يشعر بأنها تبادله نفس الحب، وهذا الشعور أثّر على اختيارى موضوعاتى الدراسية، وسبقنى لعلم الاجتماع العسكرى الدكتور أحمد خضر، الذى كان فى السنة النهائية بالجامعة، وكنت أنا بالمرحلة الأولى، وقد التحق وقتها بالجيش وأعد رسالة ماجستير عن علم الاجتماع العسكرى.

وقد شعرت بالغيرة منه، والمشرفة على رسالته كانت الدكتورة حكمت أبوزيد، أول وزيرة مصرية، كنت أيضًا من ضمن تلاميذها، وأصبحت بعد ذلك متخصصة فى علم الاجتماع العسكرى والسياسى، وهو العلم الذى ظهر بعد الحرب العالمية الثانية.

■ ما تفاصيل مشاركتك بالندوة التثقيفية للقوات المسلحة فى عام ٢٠١٣؟ وكيف أصبحت أول سيدة تدرس للضباط بالكلية الحربية؟

- قدمت محاضرة عن الشخصية المصرية وملامحها فى تلك الندوة التثقيفية أمام الفريق صدقى صبحى، رئيس الأركان وقتها، وتحدثت خلالها عن الشخصية المصرية، التى دخلت إليها الأديان الثلاثة، اليهودية والمسيحية والإسلامية، وتعاملت بديمقراطية لم تشهدها أى مجتمعات أخرى.

ومن يدرسون كتاب «القراءة الرشيدة للديمقراطية الأمريكية» عليهم أن يتعلموا من الشعب المصرى البسيط «الديمقراطية الدينية»، وهى أعلى أنواع الديمقراطيات، لأننا ببساطة سجلناها فى مقولة «عيسى نبى.. وموسى نبى.. وكل من له نبى يصلى عليه»، فالصفوة لدينا دائمًا مشغولة بالظاهر من الثقافات وبأحاديث الصفوة، ولكن لدينا حديث المواطن العادى الذى ورث ملامح الشخصية المصرية بشكل فطرى، فالأميون الذين قالوا تلك المقولة كشفوا بشفافية عن كونهم يحبون كل الأديان.

والزعيم ويصا واصف عندما توفى، وكان معروفًا بوطنيته، ذهب المسلمون للكنيسة وقالوا له: «اشكى الظلم لسعد يا ويصا»، فهو يعرفون أن «ويصا» سيقابل «سعد» لأنهم أنبياء الوطنية، ووالدتى حكت لى عن تلك المظاهرة فى حب «واصف»، وعندما أسس سعد زغلول لجنة الدستور، فى عام ١٩٣٠، اختاروا ٣٠ شخصًا منهم ٢٧ مسلمًا و٣ يهود، فقال له البعض: «يهود يا سعد؟»، فرد عليهم: «أوليسوا مصريين؟».

وفاجأنى بعد الندوة الفريق صدقى صبحى عندما قال للواء أحمد عبدالهادى، وكان وقتها مسئولًا عن لجنة البحوث العسكرية: «أشكرك لأنك عرفت تجيب الكنوز المصرية والست هدى هنا»، وبكيت وأنا أجلس وسط الجمهور لهذا التقدير الذى وجدته ممن أحبهم، وهم «أصحاب البدلة الكاكى»، ورغم أنى قلت إنى امرأة لم أحارب فإنه قال لى إنه سيمنحنى «درع المحارب».

وقال الفريق صدقى صبحى: «أنا أردد دائمًا مقولة (عيسى نبى.. وموسى نبى) فى حياتى العادية ولم أكن أعرف أننى ديمقراطى»، وأخذ بعدها المحاضرة للمشير عبدالفتاح السيسى، وبعدها بأسبوع اتخذ المشير السيسى قرارًا بأن أدرس فى الكلية الحربية، وتم تغيير القانون، وتوثيقى كأول سيدة محاضرة.

■ ما كان شعورك وقت اتخاذ هذا القرار؟

- بكيت كثيرًا من السعادة أثناء تكريمى من الفريق صدقى صبحى، وعندما اتخذ المشير السيسى قراره، وعندما طلب منى اللواء عصمت مراد، عميد الكلية الحربية وقتها، التدريس فى الكلية ليستفيد طلابها من كلامى، تم تسجيل المحاضرة فى فيلم ليكون تاريخًا للكلية، لأن الجيش المصرى من أكثر الجهات حرصًا على التوثيق.

وقد ذهبت بعدها لمعسكرات الجنود فى المدفعية والدفاع الجوى والطيران، وزرت معسكرات الجيشين الثانى والثالث، وكنت كل أسبوع فى مكان، فى وقت كان هناك صراع فى الشوارع التى يسيطر عليها أعداؤنا ممن يسمون أنفسهم بـ«الإخوان»، والذين كانوا يحاولون إيذاء الجندى المصرى الذى يرتدى البدلة الكاكى، ومطاردة الجيش الذى أنقذ المصريين منهم.

وأتذكر أن أحد الجنود جاء إلىّ على منصة المحاضرة، وقال لى إنه حزين ومنزعج جدًا من ترديد مقولة «عبيد البيادة»، فقلت له إننى «من عبيد البيادة وأحب أقولك إن بنات مصر بيسلموا عليكو، وبيقولوا التراب اللى أنتو بتمشوا عليه بيكحلوا بيه عينيهم، إزاى يكون تراب رجليكم كحلة لعينى وتبقى زعلان»، فرد قائلًا: «تحيا مصر»، وقال القائد وقتها إننى بفعل زيارتى المعسكرات أسهمت فى رفع الروح المعنوية للجنود وكنت أنام مطمئنة طول الليل لأن جنود مصر يحرسوننى.

■ فى رأيك.. ما الفرق بين موقف الجيش المصرى وقت ثورة يناير وما بعدها وبين مواقف جيوش الدول الأخرى فى الظروف المماثلة؟

- بالمقارنة مع الثورة الفرنسية ذات القيم والمبادئ، فقد كانت هناك، عندما قامت، نقاط سوداء، وقيل إن الثورة كانت تقتل كل يوم واحدًا من طبقة النبلاء، وكان زعماء الثورة الفرنسية يحكمون يوميًا على أحد ما بالموت، حتى إن الدماء كانت تصل إلى الرصيف فى شوارع فرنسا.

وفى ذات يوم، سهر أحد زعماء الثورة الفرنسية وقال، وهو يسكر مع بعض أصدقائه، إن الأشخاص الذين يتم إعدامهم يوميًا أصبحوا قليلين وإنه يلحظ على بعضهم بوادر الخيانة، فقرر أصدقاؤه أن يغدروا به قبل أن يقتلهم، وذهبوا للمحكمة الثورية صباحًا، وعندما جاء إليهم لم يجد الكرسى الخاص به، وأخبروه بأنهم سيضعونه فى قفص الاتهام، وبعد نصف ساعة تم إعدامه.

وفى تلك الأوقات، عاش الشعب الفرنسى ١٤ سنة فى ظل الفوضى الثورية، وفى هذه الفترة كان يمكن أن تقوم قرية بروتستانتية بذبح قرية كاثوليكية بجوارها، وتقتل حتى الطفل النائم إلى جوار أمه، وفى اليوم التالى تنتقم قرية كاثوليكية من أخرى بروتستانتية، لتثأر لإخوتها.

وهكذا، طلبت الدول المحيطة بفرنسا، مثل ألمانيا والنمسا وبريطانيا، تقسيم فرنسا لما بها من فوضى، وظهرت البدلة العسكرية فى هذا الوقت وانضم نابليون بونابرت للجيش الفرنسى وصعد لشرفة قصر الحكم ووقف، وقال: «سأضع المدافع هنا وأريد أن أرى الثوريين».

أما فى مصر، فخلال الـ١٨ يومًا، التى عانى فيها الشعب المصرى من الفوضى فى ثورة يناير ٢٠١١ لاختفاء الشرطة، اضطر الناس لحماية أنفسهم بالبقاء فى الشوارع إلى أن ظهرت البدلة العسكرية والعربة العسكرية فزغردت النساء فى المنازل، وكان الشعب المصرى كله ينادى «واحد.. اتنين.. الجيش المصرى فين؟»، وكان يستغيث بأبناء «البدلة الكاكى»، وكنت أقول: «الكاكى فى مصر لا يستطيع أن يعيش فى الفوضى، وأقسم على ذلك منذ ما قبل التاريخ». 

وبظهور البدلة العسكرية فى الشارع المصرى استتب الأمر، وهذا ما حدث فى فرنسا، وساعدها بعد ذلك على غزو العالم.

■ كيف يرى علم الاجتماع العسكرى مسألة تدخل الجيش فى أوقات الفوضى وتأثيره على مسار الأمم؟

- هناك، وفق علم الاجتماع العسكرى، عوامل تتسبب فى سيادة الفوضى، وهى سقوط الرداء الشعبى عن الحاكم وسقوط الدستور، وأن تسود النخبة أمراض المراهقة السياسية، ونحن فى يناير لم تكن لدينا نخبة سياسية ناضجة، رغم أن هناك أشخاصًا كثيرين يتحدثون فى السياسة.

ولذا نلاحظ أن الجيش المصرى عندما نزل إلى الشارع لحماية المواطن زغردت النساء، وحُمل الأطفال على الدبابات لالتقاط الصور، وكانت لدينا حالة ذوبان بين الكاكى والمواطن، حالة عاطفية رائعة، كان الشعب كله يريدها أن تطول، وكشف علم الاجتماع العسكرى عن أن الجيش المصرى كان الوحيد الذى لديه مناعة ضد الارتزاق، فكل جيوش العالم حصلت لها مشكلات مرتزقة مسجلة، لكن ذلك لم يحدث فى مصر، وهذا ما يزيد من إحساس الاطمئنان لدى الشعب. والتاريخ أكد ذلك، فى حالة أحمد عرابى مثلًا، الذى كان من أبناء الفلاحين، وأصبح وزير الحربية فيما بعد، ففى أوروبا عندما كان يريد الملك أن يُنصّب ضابطًا كان يضع السيف على كتفه ويقول له: «نصبتك فارسًا»، فيرد: «حفظ الله الملك.. سأضرب بسيفى الغوغاء»، لكن فى مصر ظل الجيش للشعب، وقال «عرابى» للخديو توفيق وهو يحمل مطالب الأمة: «لقد ولدتنا أمهاتنا أحرارًا»، فالجيش المصرى ليس جيش الحاكم فى مصر، ولكنه جيش الشعب الذى يتحرك دائمًا لنصرته.