رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثقافة الفقر!

حين شرعت فى كتابة هذا المقال وجدت نفسى فى حيرة بين عدة موضوعات هامة.. هناك مثلًا «العدوان على غزة» و«التحديات التى تواجهها مصر فى الجنوب» و«هجوم بعض المشاركين فى وسائل التواصل على المقيمين العرب فى مصر».. بنظرة بسيطة وجدت أن العامل المشترك بين جميع هذه العناوين وغيرها هو الاقتصاد لا السياسة.. عملية طوفان الأقصى كانت صرخة احتجاج ضد التطبيع الاقتصادى بين إسرائيل ودول الثروة فى المنطقة دون حل جذرى للقضية، إثيوبيا تمد يدها لمن يمول طموحاتها فى التنمية ويستخدمها ضد الآخرين لأن لديها رغبة فى النمو الاقتصادى، وتتخيل أن ذلك هو الطريق.. موجة العداء ضد المقيمين العرب فى مصر لها بعد اقتصادى عند من يرحب بالمقيمين ويرى فائدة اقتصادية من وجودهم ولها مبرر عند من يهاجمهم ويرى أنهم يحصلون على فرص المصريين فى العمل.. لنقل إننا فى هذا المقال سنناقش موضوع المقيمين أو اللاجئين كما يحب البعض أن يسميهم.. أستطيع أن أقول إن تحليل خطاب المنشورات التى تهاجم المقيمين الأجانب أثار فى قلبى حزنًا كبيرًا وخوفًا أكثر على مستقبل هذا البلد.. لماذا؟ لأننى أعتقد أننا ما زلنا نكرر أخطاء الماضى بحذافيرها وخسائرها.. إننا ما زلنا نفكر بطريقة غير عملية ولا واقعية، ما زلنا نفكر بعواطفنا ونسمح لمشاعر الشعبوية بأن تقودنا.. لقد شهدت مصر موجة كبيرة من استقطاب المستثمرين الأجانب فى الربع الأخير من القرن التاسع عشر.. جاء هؤلاء لمصر بصناعات جديدة وفنون جديدة ومعمار جديد.. أسهموا دون شك فى بناء مصر الحديثة التى سبقت محيطها بقرنين على الأقل.. ما فعله الأجانب فى مصر عام ١٨٦٠ ما زالت بعض الدول بجوارنا تجاهد لتفعله الآن بالاستعانة بالفنانين المصريين.. كانت مصر ولاية عثمانية فقيرة لا تختلف عن غيرها عام ١٨٠٥ لكن فتح الباب للخبرات المختلفة جعل فيها مسرحًا وأوبرا وصناعات ما زلنا نفخر بها حتى الآن.. كانت هناك عيوب بلا شك، ومن بين الأجانب كان هناك أخيار وأشرار.. صالحون وطالحون.. لكن رد الفعل الشعبى كان خاطئًا.. فقد اعتبرنا كل أجنبى مرابيًا وكل مستثمر لصًا، وكل صاحب مصنع محتالًا، وخلطنا بين ديانة المستثمرين وبين نشاطهم.. وكانت النتيجة مذبحة كبيرة ضد الأجانب أعقبها احتلال غاشم لمصر.. وبدلًا من أن يقود المصريون تجربة نهضة مستقلة ومشرقة كان الاحتلال الغاشم واعتذار قادة الثورة العرابية عن ما اعتبروا أنه خطأً فى التصرفات والفهم، ثم عاود البعض الكرة حين أقدموا باسم الوطنية على حريق القاهرة الكبرى الذى كان ضد مؤسسات اقتصادية يملكها أجانب بشكل عام، احترقت بمن فيها من الناس وأنهى ذلك وضع القاهرة كمركز مالى عالمى فى الشرق الأوسط.. كان ذلك عام ١٩٥٢ قبل أن تصبح دبى مركزًا ماليًا بحوالى نصف قرن!! وقبل أن تتكون دولة الإمارات الحبيبة بعشرين عامًا كاملة.. كانت مصر عاصمة مالية عالمية.. مضينا فى نفس الخط وأصدرنا قرارات التأميم ورحل الأجانب فى ١٩٦٠ وكان ذلك ضربة للاقتصاد لحساب السياسة.. وكانت البراعة أن نوازن بين الاثنين لكننا للأسف لم نفعل.. ثم كانت النكسة والأسلمة وولينا القبلة نحو الخليج بدلًا من أوروبا ثم وصلنا إلى هذه اللحظة.. انفجرت الحروب الأهلية فى المنطقة وخرجت رءوس أموال كبيرة من سوريا التى كانت دولة بها اكتفاء ذاتى وتراكم مالى جيد.. فى البداية قلنا إن تركيا سرقت صناعة النسيج السورية ونقلت مصانع حلب إليها وإن علينا نحن أيضًا أن نجتذب هذه الصناعات.. وبعد أن نجحنا فى ذلك فعلًا، وبينما نحن نحتاج لكل دولار يدخل مصر كاستثمار مباشر.. فوجئنا بأصوات عالية لنشر ثقافة الفقر.. تقول بعض الأصوات كيف يفتتح صاحب مطعم فرعًا واثنين خلال أعوام؟ إن هذه كارثة!! والحقيقة أن الكارثة أن تكون هذه طريقة تفكيرنا كمصريين.. لو كان الأمر كذلك فإن «الحاج عبدالغفور البرعى» جزء من مؤامرة، والحاج محمود العربى دسيسة، وصاحب كشرى أبوطارق جزء من الماسونية العالمية.. والحاج محمد الرفاعى جزء من شبكة إخوانية!! لقد بدأ كل هؤلاء الشرفاء حياتهم عمالًا بسطاء وانتهوا أصحاب ملايين وشهرة وقصص نجاح ندرسها.. كارثة أن تعتبر بعض الأصوات أن النجاح الاقتصادى فى مصر مستحيل وأنه يحتاج لتمويل إخوانى.. لأن الإيمان بالنجاح هو أساس أى نهضة اقتصادية والنجاح فى مصر بالذات سهل جدًا لمن يعمل بجد وضمير.. إن من يهاجمون المستثمرين الأجانب فى مصر ينشرون ثقافة الفقر مغلفة بالفاشية والنازية والفكر العنصرى البغيض حتى لو كانوا حسنى النية.. نريد أن نفكر بواقعية.. مطلوب أن ننظم نشاط الوافدين الاقتصادى.. مطلوب قانون يلزم صاحب كل منشأة بتعيين سبعين فى المئة من العمالة من المصريين، مطلوب أن تزور التأمينات الاجتماعية هذه المنشآت وتحصّل حق الدولة منها، مطلوب أن يعلن وزير المالية مقدار الضرائب التى تحصلها الدولة من أنشطة المقيمين وحصر حالات التهرب إذا كان هناك تهرب.. لقد جربنا لمدة عقود إعطاء الأولوية للسياسة على الاقتصاد وللعاطفة على العقل.. والنتيجة أننا تأخرنا كثيرًا عن المكانة التى نستحقها.. آن الأوان أن نوازن بين الاقتصاد والسياسة وبين العاطفة والعقل وإلا فإننا سنعيد الشريط مرة أخرى.. للأسف الشديد.