رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عيش وحلاوة

محمد رفيع
محمد رفيع

حين اكتشف أبوها أن البنت تعشق الفتى، حبسها فى البيت وأغلق دونها الأبواب والنوافذ، وحين علم الفتى أن الأب يخرج مرة واحدة فى الشهر دأب على زيارتها، والزيارة تمتد لساعات، تتشابك فيها الأصابع، تمتزج الأنفاس من خلف شراعة الباب المغلق بالمفتاح، يلتصق الجسدان بخشب الباب، يتوهمان الدفء، ويصنعان بالوهم دغدغة وكهرباء، الكلام الحلو ينساب والأصابع تحمل المراسلات للشفاه، فحديد الشراعة يقف حائلًا يصد القبل. حكى لها أحلامه وعن ساعات عمله الطويلة، قرأ لها شعرًا، وبكى لها وبها وعليها، ضحكا معًا حتى تزلزل السلم المعتم فى العمارة القديمة، داعب لسانه أذنها بالكلام والهمس لا لشىء إلا أنه لا يستطيع مداعبتها بالملامسة. والأب الغاضب هناك يتسلم المعاش ويشترى طعام شهر قادم، ثلاثين يومًا يأكل الفتى الطعام ويمشى فى الأسواق ويصوم عن الحب، ثلاثين يومًا تطبخ الطعام للكهل فى سجنها، وترسم بالأهداب وجه حبيبها على سقف الغرفة، سمته عيشًا لأنه يعيش خارج الشراعة، وسماها حلاوة لحلاوتها ولعزوبة التنهيد وعذابه فى حضرتها، وأجمل الأوقات جاءت حين قدمت له «عيش وحلاوة» فعلًا، لأنه يزورها فى سجن وحدتها، ولأنها تزوره فى الصحو والمنام، والسجان جارة تقف فى الشراعة المقابلة تخبرهم أن الأب جاء حين تراه من النافذة. مشهد كامل لسجن يسجن المسجون والحر معًا، غير أن القضبان شراعة والسجان جارة عانس، متعاطفة متواطئة تبكى معهما من خلف شراعتها، وهى التى لا تبكى حين تمارس مهنتها البغيضة التى ورثتها عن أمها، تغسل الموتى بيديها وتضع الكفن حول الأجساد الميتة، لكنها من يوم أن سمعته يقرأ لها روميو وجولييت وكيف انتهى بهما الموت متجاورين، دخلت العانس إلى القصة وغسلت الحبيبين وحلمت بنفسها وهى تغسّل رجلًا لأول مرة فى حياتها، وظلت تكتر وتحسس على عضلات الذراع القوية والفخذ المشعر، هل كان حلمها بديلًا عن الزواج، وحلمت حلاوة بالموت علها تلتقيه فى حياة أخرى، وحلم عيش أن يصفح عنه الكهل ويتسامح فى العار الذى جلبه إليه، أو يقتله، هل يحمل كفنه على يديه ويذهب إليه كما يفعل القاتل خوفًا من الثأر؟ كيف يا شكسبير الغابر توقظ الأحلام فى عقل الثلاثة؟ وكيف يا أيتها الجارة الملتاثة تحلمين بتكفين جسد رجل غريب؟ هل هدك الجوع لدرجة أن تكتفى أحلامك بتغسيل جثة لم تحمميها بيديك وهى حية؟ وتستبدلين فرح الحمام والبطة الصفراء والبانيو الملىء بالمرح بنهنهة الأقارب وهيبة الموت والبخور. عيش يبيت فوق سطح البناية قبل خروج الأب بيوم، حتى لا يراه الجيران يصعد فور خروج الكهل للمعاش، وينزل على السلالم حين يراه من أعلى يمشى فى شارعه، شارع وشراعة وغسل شرعى هل تواطأت اللغة معى؟ هل سكنت تلك القصة الكلام من يوم أن اخترع العرب حروفهم؟ شعر يتلوه الفتى وشعر ينسدل على كتف الحبيبة ويعبر الشراعة مكافأة له، والفتى يقبله، الخصلة تلو الخصلة، والجارة التى ما ذاقت الحب هناك تبكى، هناك فى الضفة الأخرى من الحب، وجسدها ييبس كأجساد نساء تغسلهن بالماء والمسك. سهل علىّ أن أقول إن الأب أتى فى غفلة من الجارة، فهى هنا تبكى ولا تتلصص على الشارع، سهل على أن أقول إن الفتى كسر باب السجن الخشبى وطار مع اليمامة، أو أن الجارة فتحت له باب حبيبته وهى التى تخبئ المفتاح فى المزهرية، وتحمل فى ضلوعها عهدًا للرجل الكبير بألا تفتح للفتاة إلا لو اشتعلت النار، وهل اشتعلت النار فيها؟

صعب أن أقول لك إن البنت سافرت إلى الله كى يجد لها حلًا بعد أن قالت له: لا تعذبنى فأنا سأنزل عليك ضيفة تأتيك بمحض إرادتها، فهل يا الله ترد ضيفًا لم يجد سبيلًا إلاك؟ وصعب أن أقول إن الجارة غسلتها بالمسك والزعفران وتركتها عارية ليطل عليها الفتى طلته الأخيرة، أتراها حين فعلت فتحت الباب للنار؟ سهل علىّ أن أقول إن الجارة تمنت أن يقتل الفتى نفسه مثل روميو لتكفنه بيديها فتلمس قلب عاشق محبوس فى صدر ميت، وصعب علىّ أن أقول لك إن ذلك لم يحدث، فلم يكن البنت والولد روميو وجولييت بل عيش وحلاوة، عيش الذى لم يرَ من جسد حبيبته إلا رأسها رآها الآن كاملة الموت والبياض، كاملة العرى والابتسام، ليس لأنها عروس السماء التى لم تتزوج بل لأن حبًا نشب فيها جملها حية وميتة. كيف للجارة أن تدع الفتى ينظر لجثة حلاوة بعين الشوق والأسى والشبق؟، ولماذا لم تفتح له أى البابين، هل كانت وفية أم متوفاة أم أن سرًا عميقًا أصلب من الشراعة التى فرقت حبيبين حبيسين بالجدران والبراح؟، لم يبك الكهل ابنته، بل بكى زوجته التى انتحرت، لم يغلق الكهل الباب بالمفتاح أبدًا، ربما تهرب حلاوة مع حبيبها، لكنها لم تهرب أو لم تعرف خدعة الباب أو عفت نفسها وما فتحت الباب مرة وارتضت الشراعة والشرع حائلًا، أى الاحتمالات كان؟ لست أدرى رغم أنى كنت هناك، كنت شراعة الباب المقفول، غير أنى لا أذكر فى أى باب كنت باب الجارة أم باب حلاوة.