رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صاحب الرسالة.. لويس عوض.. محطات من رحلة مفكر شجاع

أدركت لويس عوض شهوة إصلاح العالم منذ الصبا وظلت تلازمه حتى الرمق الأخير من حياته التى بذلها فى سبيل أن تسقط الحواجز بين المعرفة والحياة فى كل أعماله، فكل أديب خاض معركة شهيرة فى عمره الأدبى، أما هو فحياته معركة كبرى من عدة جولات، ولهذا نال مجموعة من الألقاب والصفات من الصعب أن تجتمع فى إنسان أو كاتب، فقد حمل على عاتقه تجديد تراث الآباء والأجداد بإعادة فتح باب الاجتهاد فيه على ضوء المنهج العقلى والعلمى، وآمن بأنه «لا سبيل إلى بعث تراثنا وتجديده إلا بإعادة دراسته على ضوء العلم والعقل لنغربله ونفصل هشيمه عن بذوره»، وتلك كانت مهمتة الكبرى، خاصة فى التراث المصرى، فقد خصص الجزء الأكبر من حياته لدراسة تاريخ الفكر المصرى الحديث، ورفض أن يستسلم للموروث الثقافى، أو عبادة الأصنام الفكرية كما فعل غيره، وكانت رسالته واضحة، وهى إعمال العقل والدفع بروح العصر لمناقشة تاريخنا القومى، بل ناقش حياته وأسرته ونشأته فيما بعد من خلال هذا المنهج. 

معارك المبدع الثائر 

كلما قرأت للويس عوض «٥ يناير ١٩١٥- ٩ سبتمبر ١٩٩٠» أسأل نفسى مَن هو؟، سؤال يطرحه كل كتاب وضعه، سواء فى الفكر أو النقد أو الشعر أو الرواية أو التاريخ وحتى الترجمة، فهو ليس فقط المبدع الناقد الأديب، بل ظنى أنه صاحب رسالة، وهو يعى هذا منذ أن بدأ حرفة الكتابة، وفى سبيل هذه الرسالة خاض المعركة تلو الأخرى، وما أن يفرغ من واحدة حتى يبدأ فى الأخرى بحماس لا يفتر وعزيمة لا تلين، وما زلت مندهشًا من شجاعته النادرة وقدرته على الاستمرار، حيث كان يضع نفسه فى حقول الألغام غير عابئ بالنتائج أو قُل الخسائر التى تلحق به، فكان المفكر الثائر دائمًا، فلو تأملنا بعض القضايا التى تبناها سنعرف أنه لم يكن فقط ثائرًا، بل كان فدائيًا، ففى حياة كل كاتب أو مثقف معركة كبرى شهيرة، وحياة لويس عوض محض مجموعة من المعارك الكبرى؛ بدأت بديوان «بلوتولاند» ومقدمته الشهيرة تحت عنوان حطموا عمود الشعر، هذه الفكرة الرائدة التى أثارت جدلًا كبيرًا لسنوات طويلة، وقضية ازدواج اللغة العامية والفصحى التى أثارها من خلال كتاب «مذكرات طالب بعثة»، ونال من أجلها اتهامات بالجملة، بالإضافة إلى بحثه المهم فى التاريخ المصرى قديمه وحديثه، من خلال كتاب «تاريخ الفكر المصرى الحديث» فى أربعة أجزاء حين تناول التاريخ القومى والروحى؛ إبان ثورات المصريين فى وجه روما وبيزنطة، والتاريخ الثقافى والفكرى أثناء الحملة الفرنسية، ثم تناوله الجرىء والرائد شخصيات شائكة فى التاريخ المصرى مثل يعقوب صنوع، الجنرال يعقوب، عبدالله النديم، جمال الدين الأفغانى، وبعض هذه الشخصيات ما زال يثير الجدل حتى الآن، وبالطبع لا ننسى «على هامش الغفران» أو كما يحلو لى أن أسميها «حادثة الغفران» حين رجّح لويس عوض أن أبى العلا كان مطلعًا على تراث اليونان قبل أن يكتب رسالة الغفران، فكانت الخطيئة الكبرى وكبيرة الكبائر، وبالإضافة إلى معركته الأخيرة حول كتابه «مقدمة فى فقه اللغة». 

قراءة إنسانية للتاريخ

ودون شك كانت دراسة لويس عوض التاريخ المصرى قراءة فى تاريخ الوطنية المصرية، وبحثًا عن الهوية، سواء فى المعارك التى خاضها، أو من خلال مشروعه الثقافى، فإذا ألقينا نظرة سريعة على كتاب «تاريخ الفكر المصرى الحديث»، وبالتحديد الجزء الأول، سنجد أنه تناول بعد عرضه الثورات التى طالبت بالاستقلال قبل وبعد الحملة الفرنسية لثلاثة من قادة الفكر والثقافة فى تلك المرحلة «المؤرخ عبدالرحمن الجبرتى، ورائد الترجمة فى العصر الحديث رفاعة الطهطاوى، وأحمد فارس الشدياق صاحب الساق على الساق»، ودون شك يختلف لويس عوض عن المؤرخين بأنه كان يرسم بورتريهًا للشخصية، وكان يهتم بتفاصيل الحياة الصغيرة والمواقف الإنسانية إلى جانب الحوادث التاريخية فى حياة هذه الشخصية، وكأنه يريد أن يعرف شيئًا ما، يريد دراسة الشخصية المصرية، ليكشف شيئًا غامضًا فى حياة هذه الشخصية، فهو لم يدرس شخصية متفق عليها، فلم يقبل ما أشيع حول شخصية أدهم الشرقاوى فى الذاكرة الشعبية وتم تجسيده فى السينما والإذاعة من خلال الموال الشعبى الذى يقدمه كبطل شعبى، ففى أوراق العمر يعود إلى إعادة اكتشاف هذه الشخصية من خلال قراءة ما كتبته الصحف عن أدهم الشرقاوى، خاصة «اللطائف المصورة» عام ١٩٢١، «المجرم الأكبر الشقى الطاغية أدهم الشرقاوى بعد أن طارده رجال البوليس واصطادوه وأراحوا البلاد من شره وجرائمه»، ثم يتتبع حياته وعائلته وصفاته الشخصية فى محاولة للكشف عن هذا التاقض بين الفلكلور الشعبى الذى صوره بطلًا والفلكلور الرسمى الذى اعتمده مجرمًا خطيرًا ارتاح البلد من شره بعد مقتله، ثم يدعو الباحثين لإعادة دراسته مرة أخرى! ونعود إلى «تاريخ الفكر المصرى الحديث» حيث يتتبع فى الجزء الاول الذى تلا الخلفية التاريخية ثلاث شخصيات كان لها تأثير كبير فى الفكر السياسى والاجتماعى المصرى فى العصر الحديث، جمال الدين الأفغانى، يعقوب صنوع، عبدالله النديم، الأول يمثل الدين والسياسة، والثانى الفن فهو رائد المسرح المصرى، والثالث خطيب الثورة العرابية وشاعرها الكبير، الأول إيرانى، والثانى يهودى، والثالث مصرى من الإسكندرية، راح يتتبع الأفغانى فى كل صوره ورسم له بورتريهًا فى كل أحواله المتناقضة، ورسمه فى هذه الصورة: إنسانًا مزدوج الشخصية، بل متعددها، يفصّل الكلام والتعاليم حسب من يخاطبه وحسب ظروف الزمان والمكان، فإن خاطب محمد عبده قال شيئًا، وإن خاطب أديب إسحق قال شيئًا آخر، وإن خاطب الإنجليز قال شيئًا وإن خاطب المصريين قال شيئًا آخر، حتى بدت تعاليمه وأقواله المأثورة جملة من المتناقضات! ولِمَ لا وهو الذى قال عن نفسه «الإنجليز يعتقدون أننى روسى، والمسلمون أننى مجوسى، والسنة يحسبون أننى رافضى، والشيعة يعتقدون أننى نصيى، وهكذا.. ويشعر قارئ لويس عوض فى كتابته التاريخية بأنه يعالج الشخصية دراميًا، دون انحراف عن الحقيقية كما يفعل كتاب الدراما، ليرسم صورة درامية للشخصية متسلحًا بالمنهج العلمى وخيال مؤلف الدراما، فجاءت كتاباته التى تناولت أحداثًا وشخصيات كبرى، رؤية أدبية ثائرة تفتش فى أعماق هذه الشخصيات عن شىء ما يبحث عنه لويس عوض.

صورة من قريب للعائلة

ولد لويس حنا خليل عوض فى ٢١ ديسمبر ١٩١٤ وتأخر تسجيله فى الدفاتر الرسمية لوزارة الصحة حتى يوافق الأب حنا خليل، الذى كان يعمل فى السودان على الاسم، وجاءت الموافقة عبر البريد، فتم تسجيله فى ٥ يناير ١٩١٥ وأصبح يوم مولده الرسمى، ويصف نفسه بأنه واسطة العقد بين عشرة إخوة مات منهم ثلاثة أطفال، قضى السنوات الخمس الأولى من طفولته فى الخرطوم بعد أن اصطحب الأب أطفاله وزوجته هيلانة عوض ابنة عمه إلى الخرطوم، وهذه السنوات ظلت محفورة فى ذاكرته، بل حين سافر فيما بعد إلى السودان محاضرًا فى الجامعة راح يبحث عن البيت والشارع والذكريات التى ظلت عالقة من الطفولة بين أم درمان والخرطوم. فبعد أن قدم لويس عوض عشرات الدراسات حول التاريخ والفكر المصرى والعالمى راح فى ختام حياته يحفر فى ذاكرته؛ لينقب عن ذاته وعن العائلة وسنوات الصبا فى كتاب «أوراق العمر»، فهو ليست مذكرات جريئة وصادقة كتبها دون تحفظ أو تجميل، بل هى دراسة فى الواقع المصرى من خلال حياة العائلة، حيث قام بسرد تفاصيل الحياة والبحث عن الجذور لهذه العائلة حتى الجد الخامس أو السادس، معللًا هذا البحث بأن البيئة المادية والطبقية الاجتماعية والوسط الثقافى عناصر أساسية فى التكوين النفسى لأى إنسان، فلا بد من دراستها لمعرفة النفس والغير. لذلك تعمق فى ذكر تفاصيل أنساب العائلة العوضية التى ينتمى إليها باحثًا عن جذورها، وصولًا إلى الجد الأكبر عوض الذى كان معاصرًا لعلى بك الكبير، ومن المرجح وفقًا للروايات العائلية التى يسميها فلكلور العائلة أنه كان يعمل «باشكاتب» فى دائرة الحاكم، بل أفاض فى دراسة تاريخ قرية شارونة مسقط رأسه وأهلها، خاصة العمدة عبدالصمد الذى كان من العرابيين. وكتب بزهو عن شارونة التى كانت عاصمة مصر القديمة فى عصر من العصور. 

كتب عن الأوضاع الاجتماعية للأقباط والمسلمين وعن العلاقة بينهما وعن الوعى السياسى للمسألة الطائفية، بل قرأ تطور الأسماء فى مصر وكيف خرجت من الأسماء ذات الطابع الدينى فى محاولة لبناء معجم قومى حديث بفضل تأثير ثورة ١٩١٩، ووصفه بأنه مجهود مشترك بين الأقباط والمسلمين، ولكنه أفاض فى إفشاء ما يعتبره البعض من أسرار العائلة حول الأسرة والأم والأب والإخوة والأخوات، ما أغضب الدكتور رمسيس عوض من هذا الكتاب وبعد وفاة لويس عوض لم يوافق على إعادة طبعه مرة أخرى. 

البحث عن الجذور 

وفى رحلة البحث عن الجذور، فى سنواته الأخيرة، حمل الدكتور لويس عوض جهاز تسجيل وذهب إلى الفيوم قاصدًا قرية سنهور القبلية؛ ليجمع قصصًا من الأدب الشعبى المصرى وبالتحديد موال «ناعسة وأيوب»، وذلك بمناسبة صدور كتاب عن مصر فى فرنسا عن دار لاروس الشهيرة، إذ طُلب منه أن يعد الجزء الخاص بالأدب المصرى، فقرر أن يخرج بعيدًا عن العاصمة والأدب المركزى والرسمى، وأن يتجاوز أدب المثقفين فى المدينة، ويبحث عن الجذور فى الأدب الشعبى، وهناك فى سنهور القبلية التقى مجموعة من المنشدين واستمع إلى موال «ناعسة وأيوب» من منشدة اسمها نجاة عمرها ٤٠ عامًا حافية القدمين كاشفة الوجه والشعر طويلة الثوب، وقام بترجمته والتعليق عليه كمادة لدراسة مقارنة بينها وبين أسطورة إيزيس وأوزوريس كما وردت فى النصوص المصرية القديمة، ويستخلص من النتيجة أن قصة أيوب المصرى ما هى إلا آلام أوزوريس ورحلة جثمان أيوب فى المقطف المصنوع من سعف الأشير، أيضًا هى رحلة جثمان أوزوريس فى تابوته على أمواج النيل، وصدرت ضمن كتاب «دراسات فى الأدب» عام ١٩٨٩م مع كتاب «دراسات فى الحضارة» آخر كتبه قبل مذكراته، التى وضع لها عنوان «أوراق العمر.. سنوات التكوين» التى صدرت فى العام نفسه قبل مرضه ورحيله فى ٩ سبتمبر ١٩٩٠. والمشهد السابق بين لويس عوض والمنشدين حاملًا آلة تسجيل ومستمعًا إلى ما حفظته ذاكرة الجماعة واختياره أن يكون هذا النوع هو سفير الأدب المصرى فى المجلة الفرنسية، يدل على شخصيته وأيضًا يشرح مشروعه الثقافى الذى يدافع من خلاله ويبحث عن الشخصية المصرية منذ أول أعماله حتى هذا الكتاب. 

هذا هو لويس عوض الذى قدم ما يزيد على ٥٠ كتابًا بدأت بترجمة «فن الشعر» لهوراس الذى أنجزه أثناء دراسته فى جامعة كامبريدج عام ١٩٣٨، وباستثناء «بلوتولاند» ديوان الشعر الذى ضم مقدمة أثارت جدلًا كبيرًا جاءت كتبه الأولى ترجمات للأدب العالمى تدل على انحيازاته الثقافية، ومنها «برومثيوس طليقًا» للشاعر شيللى، و«صورة دوريان جراى» و«شبح كانترفيل» لأوسكار وايلد، وأيضًا كتابه «فى الأدب الإنجليزى الحديث» الذى قدم فيه مجموعة من قصائد إليوت، منها «الأرض الخراب» القصيدة التى قرأتها بترجمات عديدة وأيضًا فى لغتها الأصلية، وظلت ترجمة لويس عوض هى الأجمل والأهم، وفى أعماله الأولى كان الشعر من أولويات مشروعه الثقافى.

الليبرالى المتهم بالشيوعية 

فى مذكراته يحكى ثروت عكاشة عن علاقته بالدكتور لويس عوض الذى تتلمذ على يديه ثلاث سنوات فى جامعة فؤاد الأول، فكان من الطبيعى أن يستعين به حال توليه وزارة الثقافة عام ١٩٥٨، وكان لويس عوض يحاضر فى جامعة دمشق فطلب منه العودة والتعاون معه، ورغم الرفض والممانعة فى البداية، إلا أنه إزاء إصراره قبِل وتولى العمل كمدير عام للثقافة، وكان ذلك فى ديسمبر ١٩٥٨، وبعد أربعة أشهر تم اعتقاله بتهمة الشيوعية، فحاول الوزير بكل ما له من سلطة إطلاق سراحه وتوجه إلى الرئيس جمال عبدالناصر يناشده أن يأمر بالإفراج عن هذا العالم البرىء، وأحاله الرئيس إلى وزير الداخلية الذى أخبره بأن د. لويس شيوعى معروف، فنفى ثروت عكاشة التهمة، وأكد أنه بعيد كل البعد عن الماركسية، بل هو شيخ الليبرالية.. وفشلت المساعى وظل رهن الاعتقال، ويومها شعر عكاشة بالذنب، لأنه هو المسئول عن تركه عمله فى سوريا ومجيئه إلى القاهرة، حيث تيسر لهم القبض عليه ووضعه خلف الأسوار! ويفسر بعد ذلك ملابسات القبض عليه التى لا تخلو من دلالة، فبعد أن تم تعيينه فى الوزارة انهالت الاعتراضات على ثروت عكاشة احتجاجًا وغضبًا من هذا القرار، احتجاجات وصفها بالمسعورة من كبار المثقفين، كانت بالنسبة له صادمة وبالطبع لم يرضخ لهم، ويقول: «الراجح أنهم وقد خاب أملهم فى إثنائى عن التمسك به اتجهوا وجهة أخرى شريرة أودت به إلى المعتقل». والحكاية تفسر كثيرًا حياة لويس عوض ومعاركه العديدة فيما بعد.