رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تحديات الأمن القومى والاقتصاد المصرى "3"

عجيب أمر المواطن المصرى.. يلعن الأزمات التى تعترض سبيل حياته، ويسب الغلاء وارتفاع الأسعار، ويصب جام غضبه على الحكومة، إذا ما رأى تقصيرًا فى الخدمات.. لكنه هو نفسه المواطن، الذى إذا ما دعت مصر يهرع ملبيًا النداء، مدافعًا ومساندًا، وشريكًا وأداةً لصنع غدها التى تستحقه.. لذلك، لم أستغرب عندما أعلن محافظ البنك المركزى المصري، هشام رامز- وقتئذ- فى سبتمبر 2014، أن الحصيلة الرسمية لبيع شهادات استثمار قناة السويس الجديدة بلغ أربعة وستين مليار جنيه، وأن 82% من نسبة عمليات الشراء كانت من قبل أفراد، فيما بلغت نسبة الشراء من قبل الشركات والمؤسسات 12% فقط.. هذه الحصيلة زادت عما وضعته الحكومة هدفًا لجمع ستين مليار جنيه، لإنشاء ممر موازٍ للقناة الأصلية بطول 72 كيلومترًا، للسماح للسفن بالسير فى الاتجاهين فى نفس الوقت، وتقليل وقت عبور هذه السفن.
والنتيجة.. أنه منذ حفر قناة السويس قبل 152 عامًا، تشارك قناة السويس بقوة فى تاريخ مصر الحديث، ومنذ تأميمها قبل سبعة وستين عامًا، وهى تمثل شريانًا استراتيجيًا واقتصاديًا هامًا للدولة المصرية.. ومنذ العام الماضى تحلق منفردة بأرقام إيرادات غير مسبوقة، لتصل إلى 9.4 مليار دولار فى السنة المالية 2022/ 2023، وهو أكبر دخل حققته القناة فى تاريخها، بزيادة بلغت نحو 35% عن السنوات السابقة، وترجع تلك الزيادة لعدة أسباب، منها حفر قناة السويس الجديدة التى تعد ضمن أهم الأسباب التى أدت لهذا الإنجاز، إلى جانب الخدمات التى تقدمها القناة للسفن المارة، وتخفيض زمن عبورها إلى إحدى عشرة ساعة فقط، فضلًا عن زيادة قدرة القناة على عبور عدد أكبر من السفن، حيث أصبحت لديها القدرة على السماح بمرور نحو 120 سفينة وبأحمالٍ كبيرة.. وأوضح الفريق أسامة ربيع، رئيس هيئة قناة السويس، أن الخدمات المستحدثة التى قدمتها الهيئة للسفن عملت على جذب عملاء جدد للقناة، حيث يتم تقديم خدمات تموين السفن وجمع المخلفات وخدمة تغيير الأطقم، التى بدأناها خلال أزمة كورونا وما زلنا مستمرين فى تقديمها حتى الآن، إلى جانب خدمات الإسعاف والإصلاح والصيانة داخل الترسانات التابعة للهيئة، فى السويس وبورسعيد.
لكن، على طريقة (الحلو ما يكملش)، دفعت هجمات جماعة الحوثيين فى اليمن على السفن التجارية فى البحر الأحمر، لا سيما تلك المرتبطة بإسرائيل، بعض الشركات إلى تحويل مسار سفنها بعيدًا عن قناة السويس ومضيق باب المندب الاستراتيجي.. وشوهدت هذه السفن وهى تسلك طريقًا أطول حول رأس الرجاء الصالح للوصول إلى أوروبا وآسيا، مما يزيد من وقت عبورها وارتفاع قيمة التأمين عليها وتكاليف الشحن بواسطتها.. وعلى الرغم من احتواء الهجمات الصادرة من المناطق التى يسيطر عليها الحوثيون فى اليمن حتى الآن، إلّا أن خطر حدوث تعطيل كبير للتجارة العالمية سيبقى مرتفعًا، طالما يتم استهداف السفن التجارية التى تديرها شركات من جنسيات مختلفة.. لقد تزايد التهديد اللاحق بالأمن البحرى المحلى خلال السنوات القليلة الماضية، وتسببت الحرب بين حماس وإسرائيل فى مفاقمته.. وتركز موجة الهجمات الحالية بشكل أكبر على السفن ذات العلاقات الإسرائيلية، ولكن حتى هذه الظاهرة ليست جديدة. فبين عام 2021 وأوائل عام 2023، استهدفت هجمات بالطائرات دون طيار، نُسبت إلى إيران، بعض السفن المرتبطة بالجهات الإسرائيلية، بما فى ذلك فى بحر العرب بالقرب من عُمان.. لكن حرب غزة رفعت من مستوى هذه التهديدات، إذ يستخدم الحوثيون أساليب جديدة لاستهداف السفن التجارية.
وفى خطاب ألقاه زعيم الحوثيين، عبدالملك الحوثي، فى الرابع عشر من نوفمبر الماضي، حذّر قائلًا: "عيوننا مفتوحة من أجل الرصد الدائم والبحث عن أى سفينة إسرائيلية فى البحر الأحمر، وباب المندب على وجه التحديد، وما يحاذى المياه الإقليمية اليمنية".. إذ أن القوات شبه العسكرية الإيرانية تقدم معلومات استخباراتية وأسلحة، بما فى ذلك طائرات دون طيار وصواريخ، للحوثيين فى اليمن، يستخدمونها لاستهداف السفن التى تمر عبر البحر الأحمر، بحسب تقرير لصحيفة "وول ستريت جورنال"، التى أكدت أن معلومات التتبع التى جمعتها سفينة مراقبة فى البحر الأحمر، تسيطر عليها القوات شبه العسكرية الإيرانية، تم تسليمها إلى الحوثيين، الذين استخدموها لمهاجمة السفن التجارية التى تمر عبر مضيق باب المندب فى الأيام الأخيرة.
هنا، أعلن وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، عن تشكيل تحالف دولى للتصدّى للهجمات التى يشنّها الحوثيون على السفن المرتبطة بإسرائيل فى البحر الأحمر، فيما قالوا عنه إنه تضامنًا مع قطاع غزة ضد دولة الاحتلال.. ستكون جيبوتى مقرًا لهذا التحالف، وتتولى "أمريكا كل العمليات العسكرية فى المنطقة، وهى المسئولة عن أعمال القتال".. وقد انضمت عشرون دولة إلى التحالف الذى تقوده الولايات المتّحدة، للقيام بدوريات فى البحر الأحمر وخليج عدن، للاستجابة وتأمين المساعدة عند الضرورة للسفن التجارية، التى تعبر هذا الممر المائى الدولى الحيوى.. علمًا بأن مصر ليست مشتركة فى هذا التحالف الذى يتصدى لهجمات الحوثيين، باعتبار أن مبدأ مصر: لا دخول فى تحالفات أو قواعد عسكرية، وتأمين قناة السويس من خلال القوات المصرية المتواجدة فى هذه المنطقة.
التوترات الحاصلة فى البحر الأحمر والحرب فى غزة، عمَّقت التحديات الاقتصادية التى تواجه الاقتصاد المصري، إذ تستهدف هجمات الحوثى ممرًا يسمح لتجارة النفط والبضائع بين الشرق والغرب، بالعبور من قناة السويس، توفيرًا للوقت والنفقات، بدلًا من الدوران حول القارة الإفريقية، وتسببت الهجمات فى دفع بعض شركات الشحن لتغيير مسار سفنها لتجنب الخطر فى المنطقة.. ويعتبر الاقتصاد، التحدى الأبرز فى بلد يواجه واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية فى تاريخه، بعدما سجل معدل التضخم مستوى قياسيًا، مدفوعًا بتراجع قيمة العملة المحلية ونقص العملة الأجنبية، فى ظل استيراد قسم من الغذاء، فضلًا عن تزايد حجم الدين الخارجي، وفقًا لوكالة "فرانس برس".. سنرى تأثيرات مباشرة لهذه الأزمة، مثل تراجع إيرادات قناة السويس بالعملة الأجنبية، وهو ما سينعكس على الخزينة، حتى وإن لم تكن نسبتها كبيرة حتى الآن، إلا أنه لا يمكن التنبؤ بمستقبل المنطقة على المستوى القريب.. وتوجد تأثيرات غير مباشرة، إذ أن السلع والمواد الأساسية تشهد ارتفاعات فى أسعارها لعدة أسباب، منها ما هو مستورد التكاليف فى المنشأ والشحن، ومنها ما هو محلى بسبب الاحتكار أو تكديس البضائع، فيما يمكن وصفه بـ"الجشع الناجم عن هذا الأمر من قبل البعض، إذ ارتفعت الأسعار فى السوق المحلية لمستويات لم تعهدها مصر من قبل".
وتواجه تدفقات الدولار تهديدات جديدة بعد تأثير الأزمة فى غزة على السياحة والهجمات على السفن فى البحر الأحمر، والتى تمنع بعضها من الإبحار عبر قناة السويس.. وتحتاج مصر إلى الدولار لسداد ديونها الخارجية العامة متوسطة وطويلة الأجل، ومن المقرر سداد ما لا يقل عن 42.26 مليار دولار من الديون الخارجية، عام 2024.. وقد يطال التأثير الموارد غير الضريبية للخزينة المصرية، والتى تشكل حوالى 600 إلى 700 مليار جنيه سنويًا، والتى تضم إيرادات من القطاع السياحى والجمارك ورسوم العبور بقناة السويس.. صحيح أن الاقتصاد المصرى ينمو بشكل مطرد، ولكن بوتيرة بطيئة، وأدى ارتفاع عدد السكان إلى إضعاف الشعور بالنمو.
أغلب فنادق ومنتجعات طابا ونويبع شهدت إلغاء حجوزاتها خلال الأشهر المقبلة، وهو ما يؤثر بالسلب فى أوضاع القطاع السياحى هناك، ويُعد غياب السائح الأوروبى الأزمة الأكبر، أما السياح الإسرائيليون، فوجودهم مرتبط بالأعياد والمناسبات، وفى ظل الأوضاع الراهنة من الصعب توقع عودتهم قريبًا.. لقد أثر تعرض مدن دهب ونويبع وطابا لسقوط مقذوفات بعض صواريخ ودرونات الحوثى على إسرائيل على حجوزات السائح الأمريكي، الذى يعد من الأكثر إنفاقًا والأطول إقامة.. كما أن رحلة ما تسمى بـ"الأراضى المقدسة"، التى تشمل جنوب سيناء وتمتد إلى القدس ومدن إسرائيلية، أُلغيت بالكامل، لكن تلك الرحلات لا تشكل نسبة كبيرة من الحجوزات السياحية فى مصر.. وهنا، لا بد أن نستبعد حصول مصر على حصة إسرائيل من السياح، بعد توقف الموسم السياحى فى تل أبيب، لأن السائح المتخوف من الأوضاع فى المنطقة سيلغى رحلته من الأساس.. إلا أن هناك رأيًا آخر يرى فى الأوضاع الحالية فرصة لجذب السياح الأوربيين الذين اعتادوا السفر إلى إسرائيل، لأن حصة تل أبيب من السياح ستتوزع على الدول الأهم سياحيًا فى المنطقة، وهى مصر والأردن وتركيا.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.