رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر تغنى.. وستظل

ظل الغناء المصرى واحدًا من السمات المميزة لثقافة شعبنا وحضارته. وكانت الأغنية هى أسرع مُعبر عن أحداثنا الوطنية أو مشاعرنا الإنسانية. بالطبع يمكن للمتخصصين أن يتحدثوا كثيرًا عن الأغنية المصرية وتاريخها. ويبقى حديث غير المتخصصين أمثالى مقتصرًا على ما نشعر به كمجرد «سمّيعة» أو متابعين، نسعد بما تسمعه آذاننا من غناء يسعدنا ويطربنا. أما تأصيل وتأريخ تراثنا الغنائى فهو مهمة الأكاديميين المتخصصين فى الفولكلور أو الشخصيات التى نذرت حياتها لتوثيق الأغنية الشعبية المصرية.
ويظل الدور الأبرز فى هذا المجال مسجلًا باسم الراحل زكريا الحجاوي، إذ كان له دور كبير فى حفظ تراثنا والسعى إلى صُنّاعه وتسجيل النوادر من تراثنا الغنائى الشعبي، فضلًا عن دوره فى صناعة نجوم جديدة وتقديمهم للمستمع والمشاهد المتعطش لهذه الفنون التى تعبر عنه وعن تراثه. فمما يحسب للحجاوى أنه صنع لنا نجومًا فى الفن الشعبى أمثال: خضرة محمد خضر، محمد طه، الريس متقال، أبو دراع، جمالات شيحة وغيرهم. ثم أنه وظّف هذه الأصوات المتميزة فى أعمال كثيرة إذاعية وتليفزيونية ومسرحية خلّدت أساطيرنا الشعبية وصنعت ملاحم فنية متميزة. ويأتى بعده- مع الفارق- المخرج عبدالرحمن الشافعى كصاحب مشروع فنى بارز فى الكشف عن كنوز التراث الشعبى المصرى، إذ صنع أعمالًا مسرحية متميزة من خلال مسرح السامر الذى كان أول رئيس له.
ولم تنتهِ رحلة الاهتمام بتراثنا الغنائى عند هذا الحد، فإن بيننا من يمتلكون نفس الموهبة وربما أكثر. نرى من حماة التراث الغنائى من يجتهد فى البحث عن الفرصة، بينما نجح آخرون فى نفع الوطن بموهبتهم سواء فى الكشف عن ثرواتنا التراثية أو توثيقها سواء عن طريق الكتابة، أو عبر البرامج الإذاعية والتليفزيونية. أذكر من هؤلاء الكاتب الصحفى والشاعر عاشق التراث محمد العسيرى، الذى تابعت له عددًا من البرامج الإذاعية مثل «للنصر غنوا»، «رمضان مغنواتى». وأظن أنه لا يزال يحمل فى جعبته الكثير من الأفكار لبرامج تخلّد تراثنا الغنائى وتعيد تقديمه. كان من بينها مشروع خطّط له ليجوب به المحافظات، يستخرج من كل محافظة درر التراث الغنائي، ويعيد تقديمه فى حفلات لجمهور تلك المحافظة، ويبث تليفزيونيًا لعموم الوطن. ولكن مشروعه لم يكتمل بعد خروج الوزيرة د. إيناس عبدالدايم من وزارة الثقافة فى التغيير الوزارى الأخير. وهو ما يدفعنى للقول إن مثل تلك المشاريع الوطنية لا يجب أن ترتبط باسم مسئول، إذ أنها منجز وطنى ينبغى أن تكمله المؤسسات أيًا كان اسم القائم عليها، كما أنها ينبغى أن تستمر حتى لو ترك ذلك المسئول منصبه.
ومسرحيًا، تبقى تجربة المخرج انتصار عبدالفتاح نموذجًا ينبغى أن نتوقف عنده بالرصد أيضًا. انتبهنا لموهبة انتصار الكبيرة منذ بداياته، حين قدم العرض المتميز «مخدة الكحل»، والذى فاز بجائزة مهرجان المسرح التجريبى عام 1998. ففى هذا العرض تبلور منهج انتصار الذى يهتم بإحياء التراث وإعادة تقديمه فى صورة منتج فنى حديث يناسب روح العصر. وقد تم استثمار موهبة انتصار حين أُوكل إليه تنظيم مهرجان «محكى القلعة»، الذى يقدم فيه لوحات فنية متميزة تنطلق من فكرة حوار الحضارات. يقدم انتصار عروضًا متميزة فى المحكى بعبقرية نادرة من خلال عرض موسيقى غنائى تتفاعل فيه كل الثقافات، فتنصهر جميعها لتقدم فى النهاية عرضًا فنيا مشتركًا يجمع كل ضيوف المهرجان بلغاتهم المتعددة، ليديرهم هو باقتدار على خشبة المسرح. 
ومن التجارب البرامجية الحديثة التى أثبتت نجاحًا كبيرًا فى هذا الإطار برنامج متميز تنتجه الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، يعده ويقدمه أحمد عطا الله، هو برنامج «مصر تغنى». برنامج مبنى فى الأساس على جهد صانعه وتجواله فى ربوع مصر قراها ونجوعها، حضرها وريفها، ليرصد من تبقوا من صناع تراثنا الغنائى أو حفظته.
يمثل برنامج «مصر تغنى» نموذجًا آخر من تلك البرامج التى تعتمد على الفكرة المختلفة عن الرائج فى سوق الإعلام، مدعومًا بعشق صانعه لما يعمل، واستغلاله للمناظر الجميلة المنتشرة فى ربوع مصر. برنامج لم يكن همه استضافة النجوم من المشاهير أو السعى خلف ما يُحدث ضجة مفتعلة. لقد صنع عطا الله من الأغنية– ذلك المنتج المصرى المتميز– مادته، وصنع لأجلها «فورمات» برامجى مصرى خالص يليق بما يقدم. لا يعتمد «مصر تغنى» على الإبهار البصرى المصنوع وإن كان قد نجح فى إبهار المشاهد بالمحتوى المقدم وبالصورة وبمواقع التصوير المختارة بذكاء، وبنوعية الضيوف الذين انتقاهم بعناية، وبموضوعات الحلقات المتنوعة، وإن كانت جميعها معنية بلون إبداعى واحد هو التراث الغنائى المصري.
بين فن الكف، والمزمار الصعيدي، والغناء الصوفي، والمديح النبوي، والفرق الغنائية الشعبية الشهيرة فى المحافظات، وملحمة السيرة الهلالية، وأشهر مطربى الأغنية النوبية وأغانى البادية تدور حلقات برنامج «مصر تغنى»، لتقول لصنّاع البرامج إن النجاح يأتى عندما تعبر عن مجتمعك. لتتأكد قناعاتنا من أن النجاح ليس مرهونًا بمن تستضيفه من مشاهير النجوم، وأن الإعلامى الحقيقى هو من يصنع النجوم ويبرز مواهبهم. الإعلامى الناجح ليس هو الذى يركب الترند أو يصعد لقطار الشهرة محمولًا على خبطة مصطنعة أو متكئًا على نجومية فنان أو فضيحة راقصة، أو مروجًا لخزعبلات وخرافات فقط، ليحقق الشهرة أو ليجلب الإعلانات. الإعلامى الناجح هو الذى يبحث عن البطل الحقيقى للحدوتة، عن الإنسان المصرى بأفراحه وأتراحه وحتى بأغانيه.