رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صدأ المفتاح لكن الأمل باق.. أصحاب الحق في العودة: «باب دارنا سوف يعرفنا»

مفتاح العودة
مفتاح العودة

لم يأخذ تسنيم سيف، فلسطينيًا، حين أُجبر على الرحيل من منزله في أكتوبر الماضي أي شيء سوى مفتاحه، زُرع في قلبه يقينًا بأنه سيعود وحلق في مخيلته سماء القدس، ترددت أحاديث أجداده في ذهنه وهو يغلق باب المنزل، بأن مفاتيح العودة هي اللعنة الحقيقية التي تطارد إسرائيل. 

بكى تسنيم مثلما بكى أجداده منذ 76 عامًا، حين هُجروا من ديارهم حاملين المفاتيح، وورثها هو وأشقائه، إذ بات يحمل مفتاح منزل أجداده الذي صدأ ومفتاح منزله الجديد، وأمل في قلبه بأن جيل العودة لن ينتهي وأن المفاتيح ستُورث إلى أن يعود الفلسطيين إلى منازلهم.

مفتاحان العودة

تسنيم: «أحمل مفتاحين للعودة.. والدار حتمًا ستعرفني»

تسنيم هو أحد سكان قطاع غزة، نزح مُجبرًا في منتصف أكتوبر الماضي من الشمال إلى الجنوب، بعد إنذار من الاحتلال الإسرائيلي بأن شمالي القطاع هو منطقة حرب. أغلق داره وحمل مفتاحه الثاني بجانب الأول ورحل. 

يقول: «كان عمري 5 سنوات حين هُجر أجدادي من بلدة جولس إلى غزة ومنها إلى عدة دول عربية، لما طلعنا أجدادي أخذوا معهم مفتاح منزلهم، رغم أننا لا نعرفه الآن لكنه ما زال معنا نتوارثه جيلًا بعد جيل لأننا سنعود إلى ديارنا والتي ستعرفنا».

عاش تسنيم منذ نكبة 1948 في غزة وهي يربي أبنائه وأحفاده على حق العودة وأنهم أصحاب الأرض، يمسي ويصبح معهم وهو يحكي قصة المفتاح، وضرورة الحفاظ عليه رغم أن الصدأ أكله إلا أن التمسك به يعني التمسك بالأرض.

المفتاح الأول مر عليه سنوات طويلة وصدأ والثاني ربما يلقى نفس المصير لكن أمل تسنيم وأحفاده ما زال باقيًا: « هجروني زمان مع أجدادي من بيتنا وتركت أصحابي ومدرستي وذكرياتي كلها هناك، واليوم هجروني إلى الجنوب بعد ذكريات شبابي التي تركتها في الشمال».

مفتاح العودة

النزوح من النكبة إلى الأقصى

صبيحة يوم لا يُنسى في العام 1948، هُجر قسريًا قرابة 800 ألف فلسطيني من بيوتهم وأراضيهم يحملون مفاتيح العودة بعد سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على القسم الأكبر من فلسطين، وخلال 113 يومًا من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة العام 2023، نزح 1.8 مليون فلسطيني من ديارهم حاملين مفتاح ثاني للعودة.

هؤلاء الفلسطينيون منهم من عاش النكبة والتهجير القسري بها وعاد ليعيش النزوح الحالي، ومنهم من سمعها كرواية فقط من الأجداد، إلا أن كل تلك الأجيال تحمل في طياتها مفاتيح العودة إلى الديار القديمة والجديدة.

 

عفاف: «أُعلق المفتاحين في صدري»

«فوق ما هجرونا سنة 1948 من بلادنا الأصلية ورحلونا لغزة، هلأ اليوم بيهجرونا من غزة».. على الأنقاض التي خلفها العدوان الإسرائيلي الحالي في غزة، تجلس عفاف غالب، مُسنة فلسطينية، حولها أحفادها الثلاثة، تقص لهم حكاية مفتاح العودة.

توصيهم إذا ماتت في الحرب أن يخلعوا المفاتيح من صدرها ويحتفظون بها ويتوارثونها حتى يعودوا إلى ديارهم القديمة من جديد. رُحلت مرتان، كانت الأولى هيّنة بحسب وصفها؛ لأنها كانت صغيرة لا تعي ما يحدث سوى أن والدتها تحزم الأمتعة ووالدها يخبرها بضرورة الرحيل.

عفاف

كبرت عفاف التي كانت تعيش في قرية الطنطورة بمدينة حيفا حين هُجرت للمرة الأولى، ولكن أصبحت تعي كل شيء الأن، وتشاهد الدمار والقصف الذي يحدث في غزة لتعيش التهجير الثاني من الشمال إلى الجنوب في أكتوبر الماضي.

تملك عفاف مفتاح العودة القديم تعلقه في حبل على صدرها وتدسه أسفل الجلباب، بعدما ورثته من أمها وتنوي إعطاءه لحفيدتها الصغيرة حين تكبر، إلا أن ترحيلها مرة ثانية دفعها لوضع المفتاح الثاني في نفس الحبل فهي تأمل أن تعود لدارها مرة أخرى.

تقول: «مفتاح العودة هو رمز قضيتنا، والتخلي عنه مهما هجرونا يعني التخلي عن حق العودة وعن الأرض، نحن نتمسك به ونتوارثه جيلًا بعد جيل، حتى تعود لنا أرضنا ونعود نحن للديار ويرحل المحتل».

 

عزيز: «أعادوا إلينا سيناريو 1948»

رغم أنه لم يكن موجودًا، إلا أن عزيز المصري، نازح فلسطيني، لم ينس حكاية رحلة أبيه وأمه وثلاثة من أشقائه منذ 75 عامًا، حين هُجروا من مدينة المجدل إلى غزة تاركين الديار، حاملين معهم مفتاح منزلهم للعودة.

هي نفس الرحلة التي خاضها وهو أب لابنتين في 14 أكتوبر الماضي، حين هُجر للمرة الثانية قسريًا إلى جنوب الوادي، حاملًا المفتاح الثاني لمنزله: «المفاتيح ارتطبت برمزية النكبة وحلم العودة إلى بيوت أجدادنا من القرى والمدن التي هجروا منها».

يقول: «المفتاح القديم والجديد مرتبط بتلك الأحلام ورمز لحق العودة ويُسلم من جيل لجيل، في كل بيت في فلسطين هناك نسخة من مفتاح البيت المهجور من 48، وحين هُجرنا اليوم من غزة عاد سيناريو 1948 إلى ذاكرتنا».

عزيز المصري

عزيزة: «أحدث أبنائي عن مفتاح العودة»

طوال رحلة نزوح عزيزة حمدان الفلسطينية، برفقة 5 أبناء وحفيدتين، وهي تقص عليهم حكاية العودة، وكيف أن المفتاح أصبح اثنين، وتوصيهم بالحفاظ عليهم والعودة إلى بيوتهم فور خروج الاحتلال: «سوف تعرفهم الديار هناك دون عناء منهم».

عزيزة تبلغ من العمر 50 عامًا، هُجر  أجدادها خلال نكبة 48 عامًا، لم تكن هي موجودة في ذلك الوقت، لكنها علمت القصة كاملة من جدتها التي أورثتها مفتاح العودة إلى منزلهم في شمال غزة وما زالت تحمله إلى الآن.

هُجرت عزيزة للمرة الثانية في أواخر أكتوبر الماضي، بعدما صدحت إنذارات الاحتلال الإسرائيلي بضرورة الانتقال من الشمال إلى الجنوب لتسك الباب وتحزم الأمتعة وتحتفظ بمفتاح ثان.

تقول: «وضعت مفتاح دارنا الجديد بجانب القديم الذي ورثته وصدأ، لكن لدي أملًا على أن يومًا ما سنعود للديار، هُجر أجدادي بالأمس واليوم أنا والفلسطينيين ننزح بعيدًا عن ديارنا مجددًا».

 

جمعية عائدون: «نسعى لنشر ثقافة الحق في العودة»

يجتمع حاملو مفتاح العودة في غزة، أسفل راية جمعية عائدون، المتخصصة في قضايا العودة للاجئين الفلسطينيين، وتعمل على حشد جهود الأفراد والمؤسسات لتوعية اللاجئين بحقوق العودة إلى الديار والتمسك بالأرض.

أكرم أبو شهاب، مؤسس جمعية عائدون العام 2011، بهدف نشر ثقافة العودة بين أجيال الفلسطينيين وتحفيزهم على التمسك بحق العودة، ورفض فكرة الوطن البديل، وتعميق المفاهيم القانونية التي تتبنى مبدأ حق العودة.

أكرم أبو شهاب

يقول: «شعبنا تجرع مرارة الخروج والنكبة، حين أخذ وعد بالخروج لمدة أسبوع والعودة، لذلك أخذوا معهم مفاتيح الديار؛ لأنها رمز القضية ولكن الأسبوع مضى عليه 75 عامًا، لذلك نحاول التعبئة منذ النكبة».

نحو 800 فلسطيني خرجوا قسرًا من منازلهم خلال العام 1948، لكن تعدادهم في دول العالم الآن حسب الجمعية قرابة 8 ملايين خارج فلسطين، و7 ملايين ونص داخل فلسطين، و3 ملايين ونصف في الضفة، و2 مليون و300 ألف داخل قطاع غزة، و2 مليون في الأراضي المحتلة، أي 16 مليون فلسطيني نازح في كل أنحاء العالم.

 

يظل مفتاح العودة رمزًا دائمًا للفلسطينيين بأن لهم أرضًا محتلة وبيتًا مسروقًا، يجب تحريره والعودة إليه يومًا ما، فكل من هاجر يمتلك مفتاحه، ويُحدث أحفاده عن العودة، ذلك النهج اتبعته عزيزة وعفاف وتسنيم وعزيز وغيرهم من الجدات والجدود في فلسطين.