رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تجديد ذكرى سعيد الكفراوى

فى الأيام الموحشة يتفادى الواحد منا بعض الوجوه المحبطة، التى انتشرت فى السنوات الأخيرة فى وسط المدينة، من الذين لا نعرف ماذا يعملون وكيف يعيشون ومن أين جاءوا؟، أكثر من أربعين عامًا لى فى وسط القاهرة، شهدت خلالها ما يكفى من الهزائم العربية، ومع هذا كنا نتجاوز أحزاننا ونحتفل بانتصارات صغيرة غزيرة فى الحياة، بالكتابة والموسيقى والرسم والصحافة والسينما، كانت تجمعات المثقفين عامرة بالأمل رغم الخلافات فى الآراء والأذواق، وكان هناك من يتم الاحتكام إليهم فى المسائل الملتبسة، الأجيال السابقة كانت لها «لاءاتها»، لا للتطبيع مع العدو الإسرائيلى، لا للدولة الدينية، لا للاستعمار والتمويل الأجنبى، لا للاستبداد، وكانت هذه هى شروط الانسجام مع عالم هؤلاء السحرى، فى الأيام الموحشة التى عشناها مؤخرًا تذكرت الأرواح العظيمة التى كانت تطبطب علينا ونحن نشاهد بلدانًا تضيع، وعواصم عربية يتم ضربها بطائرات ودبابات أمريكية وأوروبية وبأموال عربية، قبيلة الثقافة المصرية قبيلة تشرف من ينتمى إليها، لأنها لم تتربح من مواقفها، ولأنها ما زالت رغم ما يحدث من شراء بعض الذمم تدافع عن روح هذا البلد ضد غارات أعداء مصر وأصدقائها على حد سواء، الذين عشنا بينهم وتعلمنا على أيديهم، لم يستشهد الإسرائيليون بآرائهم فى إعلامهم، ولم نسمع أن أحدهم أساء فى يوم ما إلى جيشنا الوطنى، هدم الثوابت الوطنية أصبح تجارة رائجة، الوقوف مع الغاصب المحتل الفاشى ضد المقاومة المشروعة أصبح مربحًا أكثر من الاتجار فى المخدرات، هذه مقدمة طالت منى رغم نيتى الحديث عن شخص عزيز مرت هذه الأيام ذكرى رحيله، ربما لشعورى بغياب الألفة عن وسط البلد الذى كنا نهرب إليه فى الأزمات لكى نكون بصحبة من نحب من الناس الطيبين الموهوبين المستغنين أمثال سعيد الكفراوى، الذى رحل قبل ثلاث سنوات، والذى كان حضوره خفيفًا ورائعًا، لأنه كان يريد أن يحكى لك حكاية، ليس مهمًا سمعتها منه قبل ذلك أم لا؟، المرة التى كتبت عن محبتى له فيها فى الأهرام، رحل قبل أن يقرأ، كنت فى الإسكندرية ولحقت تغيير السطر الأخير من المقال، رغم أناقته المعهودة وسفرياته الكثيرة فى بلاد الله، يشعرك الكفراوى لو كنت تلتقيه أول مرة بأنه قادم من قريته كفر حجازى مركز المحلة الكبرى للتو، وأنه لم ينزع جلبابه البلدى بعد، يحكى أنه حين قدم إلى القاهرة فى الستينيات من القرن الماضى، ذهب بجلبابه هذا إلى الأستاذ يحيى حقى فى مجلة المجلة ليقدم له قصة للنشر، أحب الرجل الكبير هيئته، وطالبه بقراءتها أمامه، ونشرها له، ليدخل الكار من أوسع أبوابه، ويخلص لفن القصة القصيرة وينجز فيه ١٢ مجموعة قصصية، تحتفى بالمنسى فى ريف الدلتا، وقاهرة المنسين، مرة فى باريس تحدث عن أساطيره الخاصة، المتمثلة فى جدته التى كان لها بقرة لا يتم حلبها إلا على يديها، غابت الجدة ثلاثة أيام فى المدينة، فاحتبس اللبن الذى كاد يؤدى إلى وفاة البقرة، ولكنها بمجرد سماع صوت الجدة خرج اللبن متدفقًا فرحًا، ويقول دائمًا، «الكتابة بالنسبة لى هى المسافة بين مصدر الصوت وانهمار اللبن»، يتحدث الكفراوى عن العالم القديم بشجن وأسى، وخفة ظل أيضًا، لم يلبس قناع المثقف المتجهم مرة فى حياته، هو رجل بسيط طيب القلب يريد أن يحكى حكايته، لا يريد أن يكون هناك مغزى فى الكلام، أذكر أنه عندما كان يزورنى بصحبة الشاعر الكبير عفيفى مطر فى قريتى هورين بالمنوفية فى تسعينيات القرن الماضى، كان يستأنف الكلام مع أصدقائى وأقاربى كأنهم كانوا معه وكأنهم من بقية أهله، المودة والحميمية وصفاء النبرة جعلته قريبًا من الجميع، هو من شلة المحلة كما كانت تسمى، مع الأنقياء الموهوبين جار النبى الحلو ومحمد فريد أبوسعدة والراحل محمد صالح الذين عرفتهم عن قرب، وأيضًا الدكتور جابر عصفور ومحمد المنسى قنديل وأحمد الحوتى، هو من جيل الستينيات الذى شهد صعود الحلم وانكساره، سجن ستة أشهر لأنه نشر قصة سنة ١٩٧٠، وكان المحققون يتعاملون معه فى الصباح على أنه شيوعى على علاقة بالكبيرين إبراهيم فتحى وعبدالرحمن الأبنودى، وفى المساء على أنه إخوانى بسبب خاله، وهو لا هذا ولا ذاك، وتجربته هذه استلهمها نجيب محفوظ فى رواية الكرنك من خلال شخصية إسماعيل الشيخ، تربص كثيرون بالكفراوى، ولكنهم آمنوا بموهبته بعد ذلك، لأنه لم يزاحم أحدًا على شىء، وعاش مخلصًا للكتابة والخير، يبحث عن الخرافة ويعجنها مع الواقع والزمن، بلغة هى أقرب إلى الشفاهة منها إلى اللغة المكتوبة، محملة بطاقة شعرية عظيمة، وبأحزان لا يعرفها إلا أبناء الفلاحين.