رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لماذا تبنى الدولة كل هذه المساكن؟!

غريب أمر هذه اللغة.. هى ليست مجرد حروف نكتبها.. أو نتحدث بها.. تلك العلامات العجيبة التى نعيشها دون أن ندرى أهميتها ليست من الكماليات.. يدركها العاجزون عن التواصل والخيال فقط.. هذه اللغة التى سحرتنى لسنوات كثيرًا ما تحيرنى.. وأجدنى عاجزًا عن فهم تفاصيلها وأدرك أننى فى حاجة لسنوات لكشف أغوارها. 
كثيرًا ما أتابع إعلانات بيع وشراء البيوت.. واكتشفت بعد فترة من المتابعة أن هناك فروقًا عجيبة بين معانى مفرداتها.. بيوت.. سكن.. شقق.. عقارات.. جميعها يحمل معنى واحدًا.. لكن التفاصيل مختلفة.. ربما بعضنا لا يتوقف كثيرًا أمام تلك الاختلافات ويعتبرها نوعًا من اللهو.. لكننى قطعًا لا أعتبرها كذلك.. وأجدنى مقصرًا فى الفهم والإدراك والوعى بتلك التفاصيل والأسرار وراء استخدام كل مفردة من تلك المفردات. 

خلال الأسبوع الماضى انشغلت مع أحد أصدقاء الطفولة فى البحث عن بيت يسكنه مع أسرته بعد غربة طويلة عاشها فى الخليج.. هو شاب مصرى مكافح من أسرة بسيطة.. تخرّج بتفوق من إحدى كليات العلوم وعمل بعد تخرجه بإحدى شركات البترول فى السويس، ثم سرعان ما تركها ليلتحق بشركة تعمل فى الخليج.. عشرون عامًا مضت.. تزوج هناك وأنجب وكبر الأبناء حتى وصلوا لمرحلة التعليم الجامعى.. الآن قرر هو وزوجته أن تعود أسرته لتعيش فى القاهرة فيما يستمر هو فى عمله هناك.. هو يحتاج الآن إلى منزل آمن، فى حتة عمار.. قريب من الجامعات.. سأل من يعرفهم وكنت أحدهم.. سألت أصدقاء أصحاب شركات عقارية ومقاولين وأصحاب مكاتب تسويق.. وكانت رحلة فيما بين القاهرة والجيزة وأكتوبر والقليوبية.. صديقى ادخر عددًا من الملايين قرر أن يدفعها فى بيت يوفر لأنجاله ما وفرته له الحياة فى بيت والده فى الصعيد، لكن كيف؟

الدولار.. الاقتصاد.. الأسمنت.. الحديد.. هذه مفردات تسيطر على حوارات كل من التقيناهم.. الأسعار خرافية.. شقة واحدة فى مكان جديد لا تتعدى مائة وخمسين مترًا بستة ملايين كاش.. هذه أرقام خزعبلية لا يتوقعها أحد.. سأل أحدنا عن فيلا منفصلة لا تزيد مساحتها عن أربعمائة متر.. بها أربع غرف فقط وما يلزم من حمامات.. سعرها يقترب من ٣٠ مليونًا.. سعر المتر فى بعض الأماكن يقترب من الأربعين ألفًا ويتعداها فى بعض المناطق.. فى النهاية وجد صاحبى ضالته.. فيلا صغيرة فى موقع متوسط وليس جديدًا لكنه عامر بالونس.. كل مدخرات الرجل ستذهب فقط لهذه الغرف الأربع.. هو لا يريد أكثر من الأمان. 

فيما كنا نبحث صادفنا ما بنته الحكومة فى تلك المناطق من مشروعات سكنية.. بالطبع أسعارها تقل كثيرًا عما شاهدنا من عقارات القطاع الخاص.. لم تُرحنى أسعارها فقط بالمقارنة بأسعار القطاع الخاص.. أراحتنى اللغة التى تم اختيارها كأسماء لبعض هذه المشروعات.. سكن.. دار.. جنة... لكن راحتى لم تدُم طويلًا.. فقد ألجمنى شاب جامعى كان بصحبتنا طيلة الرحلة، يعمل سائق سيارة لأنه لم يجد عملًا آخر يناسب ما درسه فى الجامعة.. أفلتت منه بضع كلمات لم أفهمها فى البداية.. لكن سرعان ما خطفتنا جميعًا.. من هم فى موقعه وسنه بالملايين فى مصر.. لا يمكن لأحدهم أن يوفر ثمن شقة فى تلك المشروعات الاستثمارية الخاصة لو ادخر مرتبه كله عمره كله.. ولولا تلك الشقق التى توفرها الحكومة، حتى وإن استغلها البعض فى الحصول على ما يسمى بالأوفر برايز، ما تبقى لدى كل هذه الملايين أى مساحة من الأمل والحلم بأربعة حيطان آمنة.. مجرد أربعة حيطان ليس أكثر. 

نحن نحتاج إلى ملايين البيوت.. نعم البيوت.. هذا الشعب يحتاج دومًا إلى العمار، فقد خلقه الله ليبنى.. ومن حولنا هناك من يهدم البيوت فوق رءوس الأطفال والنساء. 

عجيب أمر هذه اللغة.. وأمر هذا العالم.. كيف تستقر مفردة يبنى ويهدم فى جملة واحدة؟