رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إبراهيم عبدالفتاح يكتب: محمد عزب

إبراهيم عبدالفتاح
إبراهيم عبدالفتاح

هذا الليل كاذب، يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة دون أن أصادف لصًا يقتسم معى سجائره ووحدته، ويودعنى بمودة لا يدركها قديس، ولا تعثرت خطاى بطفل مشرد ينام على رصيف المذلة، ولا يجرؤ على حلم بحضن أبيه يحمله على كتفيه فيلمس النجوم، أو رائحة أمه تفوح من صحن محبتها، ولا صادفت «مومسًا» جائعة، ولم يتبق من مجد أنوثتها غير «طرقعة» علكتها، أو مجذوبًا أعيته المحبة، فقايض أحبته بالمسابح، وعشيقاته بالعطور، وأحلامه بالبخور، مشيت ومشيت حتى فرغت بطاريتى فجلست أسفل تمثال إبراهيم باشا بميدان الأوبرا القديم، رحت أراقب الناس عن كثب وأتفحص وجوههم، تتبدل عدسات عينيى بين محدبة ومقعرة وصافية حين تنعكس عليها ملامح البشر بمختلف حالاتهم، أتأمل الحصان الذى اعتلى البطل صهوته: ماذا لو ضجر الحصان وقرر الانفلات تاركًا إبراهيم باشا معلقًا فى الهواء يضم بين فخذيه فراغًا هائلًا، لمحت شابًا يقبل نحوى حاملًا حقيبة صغيرة وتتدلى من عنقها كاميرا، لم يكن يمشى مثل الناس، كان يبدو كمن يرقص من جراء التباين الملحوظ بين طول ساقيه: أصورك مع عبدالحليم أو شادية، قال الشاب وأضاف: أو أى فنان بتحبه. ضحكت من الفكرة وطلبت إليه أن يجلس بجوارى أولًا، وضع الشاب حقيبته: اسمى محمد عزب من باب الوداع، والكاميرا دى هوايتى وأكل عيشى، صافحته معرفًا نفسى بدورى: ولكن أين هو باب الوداع؟ راح عزب يغنى بكلمات لم يسبق أن سمعتها: «باب الوداع عجوز بردان محنى تحت الليل، أما النهار واقف على باب حيّنا حيخش فين»، اندهشت من جمال الأغنية وخصوصية مفرداتها وسألت: لمن هذه الكلمات؟ فأجاب عزب: «هذه كلماتى أنا أكتب بين حين وآخر، وراح يلقى على مسامعى بعض المقاطع وهو ينهض ويتحرك ويرقص تارة قافزًا بين المقاعد، وتارة يجذب بأحدهم أو إحداهن إلى داخل الدائرة التى تتوسط المكان، تحلق الناس حولنا وكلما فرغ من مقطع يطالبونه بالمزيد حتى طلع النهار.

وبدأ الجمع فى الانصراف، تاركين المكان لعمال النظافة يمحون ما تبقى من مخلفات الليل، تحركت وعزب قاطعين الطريق إلى شارع محمد على، حتى وصلنا إلى حديقة الساعة، ثم انصرف كل منا لطريقه بعد أن طلبت من عزب أن يأتى لقصر الغورى، حيث يمكنه أن يشارك فى أمسياته ويتعرف إلى المشهد الشعرى ورموزه، ذات مشقة كان عزب يمشى بشارع محمد على متوكئًا على عصاه التى رافقته فى سن صغيرة، مشى يضربه الجوع والألم حتى لمحه عبدالنبى الخطيب أحد جيرانه وشقيق المغنى الشعبى «الخطيب الصغير»، صاح به عبدالنبى: أستاذ عزب إزى قلمك يا شاعر؟ أجابه عزب كمن وجد ضالته: قلمى أم ألمى، ضحك عبدالنبى وطلب منه أغنية لشقيقه: عايزين هداية حراقة لأخوك الخطيب الصغير، استسمحه عزب أن يأتى له برغيف من عربة بالرصيف المقابل لمقهى التجارة، وما إن فرغ منه حتى طلب شايًا وأرجيلة وورقة وقلمًا، كتب الأغنية المطلوبة وقرأها على عبدالنبى «اللى على على، من حقك تتقلى، دلوقتى بقيتى نجمة وعرفتى تمثلى». فمنحه مائة جنيه كاملة كجزء من أجره، لكن عزب شكره مكتفيًا بهدية السماء التى أنقذته هذه الأمسية، نام ليلتها بفندق الحسين لقاء عشرين جنيهًا كاملة، وفى الصباح أنفق ما تبقى فى شراء كتاب مسخ الكائنات لثروت عكاشة، الكتاب الذى طالما نظر إليه بفاترينة إحدى المكتبات وكانت يده دائمًا أقصر من أن يقتنيه، صار عليه أن يعيش من معجزة يومية، وأكثر ما يخشاه ألا تحدث.