رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحركة النقدية بين الإبداع والتناول الموضوعى

ونحن نعيش مرحلة؛ ننشد فيها تفعيل عمليات التنمية، لابد ندرك أنه لا تنمية حقيقية دون تنمية العقل والوجدان والفكر، فلا طائل من تحقيق تنمية سياسية أو اقتصادية؛ إذا لم يسبقها أو يواكبها عمل جدي متواصل في مجال دعم كل آليات التنمية للثقافة، اعتمادًا على منظومة تعليمية تدفع في اتجاه إعمال العقل والتفكير والإبداع في كل مراحل تطبيقاتها الحياتية.
قد يبدو غريبًا لو عقدنا مقارنة بين حالنا في زمن محدودية إتاحة التعليم والقيود التي كانت لا تسمح بتوفير بنية تعليمية وتربوية وإبداعية معقولة، ومع ذلك كانت لنا ريادة إقليمية وعربية في الثقافة والفكر التنويري والتعليم، والآن وبعد توفير المزيد من فرص الإتاحة ببناء آلاف المدارس والأجهزة والمؤسسات الثقافية والإعلامية، نعانيـ للأسف ــ من وباء الأمية النسبية الثقافية وانتشار المزيد من مظاهر الدجل والفهلوة والجهل!!
يبدو أن حكمة "إذا نقدت الناس نقدوك، وإن تركتهم تركوك" قد أخافت أهالينا منذ زمن بعيد من التناول النقدي والفكر الناقد والتداوي بالنقد، فكان الاكتفاء بالمدح والرثاء والتهاني والفخر والحماسة وغيرها.
حول النقد الأدبي يذكر الكاتب الكبير أحمد أمين "إذا تتبعنا واقع الأمر في الأمم المختلفة فإننا نجد هذا الأدب العميق الممتاز له جمهور خاص به، قد بلغ من المستوى الفكري والثقافي ما يمكنه من تذوق هذا الأدب الممتاز وإدراك اتجاهاته ومراميه".. ويؤكد "أمين" أن الأدب له جمهور خاص، لا يمثل طبقة اجتماعية معينة، فقد تجده يضم أشتاتًا من مختلف الطبقات، ففيه العامل المثقف، والفلاح المجتهد، كما أن فيه الغني العاطل، والموظف الخامل والعالم الفاضل، جمهور تجد فيه من تعلم في جامعة، ومن علم نفسه بنفسه، وعلى الرغم من اختلاف درجاته الاجتماعية فهو متحد في المستوى الثقافي إلى حد ما". 
ويُعد النقد مرجعية إبداعية نتابعها ونقدرها بين الحين والآخر، وفقًا لمدى تجلي طاقة المبدع، ومخزونه المعرفي وملكاته الخاصة، وهذه الخبرة تتنامى تدريجيًا، وتبزغ بمقدار موهبة الناقد، ورؤيته، وأحكامه النقدية المؤسسة على وعي معرفي، وخبرة إبداعية راقية في الكشف، والاستدلال، والتمحيص، ومن أجل أن تتنامى هذه المرجعية لابد من روافد إضافية تزيدها، منها: الثقافة المتطورة، والحساسية الجمالية، والموجة الرؤيوية التي تنبثق من صميم المعرفة، والتشوف الرؤيوي المتوهج على ما هو جديد ومبتكر، ولهذا، لا غنى عن هذه المرجعية في ثراء تجربة الناقد وغناها.. معلوم أن عملية النقد الأدبي قد مرت بمراحل اختلفت باختلاف طبيعة الأزمنة المتلاحقة وطبيعة أهلها الفكرية من جهة، وباختلاف النتاج الأدبي الذي قدمه أدباء كل عصر من عصور الأدب.
يذكر في دراسات النقد الأدبي أن البداية كانت في العصر الجاهلي انطباعيًا عفويًا يخضع للذوق العام للمتلقي، فعندما كان الشاعر يقف على منصته في إحدى الأسواق الثقافية كسوق عكاظ وذي المجنة وذي المجاز، كان الناس عامة يتجمهرون حوله يصغون لإلقائه، ويبدون ما لديهم من انتقادات لا تتجاوز حدود الكلمة من النص هنا أو هناك، أو انتقادات تظهر ذوق السامع وحسب دونما حاجة لتعليل الحكم النقدي أو تفسيره، ولم يكنِ النّقد ليختلف عن هذا الحال في العصرين: صدر الإسلام وكذلك العصر الأموي، إلّا أنه في العصر العباسي ومع ظهور المصنفات العلمية واللغوية بدأ النقد ينحى منحى علميًا، فظهرت الاصطلاحات النقدية وكتب النقد لمفكرين ولغويين متخصصين في النقد والأدب، ولكن النقد في هذا العصر كان لا يزال نقدًا جزئيًا يبحث في الكلمة أو العبارة ولا ينظر إلى النص الأدبي كقطعة فنية متكاملة.
معلوم أن النقد الأدبي هو إحدى دعائم الحركة الأدبية في كل عصر.. فأين النقد الذي قامت عليه حركتنا الأدبية المعاصرة؟
وهو السؤال الذي طرحه الكاتب يوسف السباعي في مقاله الافتتاحي بمجلة "الرسالة الجديدة" عام 1954 تحت عنوان "ضيعة النقد"، وأضاف "وسأل: أين هم النقاد؟ وأين جهودهم التي أذكت لهيب الحركة النقدية وجلت صداها؟
وفي هذا السياق كان المفكر والناقد الأكاديمي الراحل د.صلاح فضل، أستاذ النقد الأدبي، يؤكد أن التوجه إلى الصحافة وسهولة تحبير الصفحات الطويلة، من دون مراجعة للنفس والاتكاء على ثقافة عميقة ومعرفة علمية مؤسسة منهجيًا، هو الذي يُغري هؤلاء الكتّاب باحتراف ما يبدو ظاهرًا كتابة نقدية، وهي في الحقيقة ثرثرة لا أكثر، فالكاتب المبدع يجب أن تتوفر لديه الموهبة الخلاقة، يُولد أو يكاد يولد بها، لابد من وجود لمسة من العبقرية، نفحة من نار الخلق في قدرة التكوين، وإما تطمرها الأحداث والظروف الشخصية، أو يشعلها الوعي وتزكيها التجارب، فيمتلك نوعين من الخبرة لا غنى عنهما، الخبرة الوجودية بالحياة بحيث يستطيع النفاذ إلى طياتها وأعماقها وتعقيداتها مدركًا ببصيرة ثاقبة أسرارها، والقدرة الجمالية على صياغة كل ذلك بأشكالٍ فنية مبدعة ومتجددة ومدهشة للقارئ، وإذا لم يغذّ صاحب شرارة الموهبة قدراته بهذين النوعين من الخبرة سرعان ما ينطفئ.
وفي هذا السياق أيضًا تتقدم الصفوف أديبات ومفكرات وناقدات.. ومنهن أكاديميات في مجال النقد الأدبي، مثل الكاتبة والناقدة الرائعة  د. أماني فؤاد، أستاذ النقد الأدبي الحديث بأكاديمية الفنون، ولعل الاختيار من بعض إبداعاتها الفكرية النقدية خير وسيلة للاقتراب من زوايا ومنطلقات فكرها النقدي العام.. من مانشيتات فكر الناقدة باختصار:
• تؤكد الناقدة على أطماع القوى العالمية في السيطرة، وتغذية صراعاتنا، وتمويل بعض الفرق والتيارات التي تؤجج النزاعات.
• ترى د. أماني أن من معوقات القدرة على الحراك الثقافي في مجتمعاتنا ما يمكن أن نطلق عليه وهم المقدس الذي يُلصق باجتهادات بشرية كثيرة اكتسبت صفة القدم وميزة الاعتماد!
• وحذرت الكاتبة من تهميش القوى السياسية والدينية والاجتماعية أدوار المفكرين والفلاسفة والنقاد والمبدعين والمتصوفة واستبعدتها.
• ترى الناقدة أن هناك وهمًا كبيرًا اسمه الفن للفن.. وأن من أدوار الفن أن يخلخل جمود الواقع وتكلسه وتأبده في مجتمعاتنا كثيرًا، ومن شأن الخطابات التي يقدمها الفن المساهمة في القضاء على الفكر المتطرف الإرهابي.. وأن التعليم الحقيقي هو ما ينتج عقلًا ناقدِا وليس ناقلَا.
• وتؤكد د. أماني فؤاد على أن المرأة إنسان مطلق، أول أدوارها تحقيق ذاتها والاتساق مع نفسها، قبل كونها زوجة، أو أما، أو راعية منزل.. وأن المرأة أكثر عنفًا في حراسة الثقافة الذكورية نتيجة التدجين الذي مُورس عليها.