رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نحن لا نأكل الحرب.. الحرب تأكل الجميع

الذين يجلسون أمام التلفاز من العاديين أمثالنا لا يملكون المعلومات.. ينتظرونها.. ولا يملكون السلاح، فقط يتعاطفون مع المقتولين به.. ثم يبحثون بعد أن ينتهى البكاء أو تنتهى الصلوات عن كسرة خبز يقاومون بها حرب البطون، ثم يعودون مجددًا لمتابعة أرقام الشهداء والمصابين. 

هذا هو حالنا دومًا فى أى حرب.. لكننا هذه المرة على بُعد خطوات من المأساة.. ربما عاشت أجيال قبلنا ما هو أصعب.. وما هو أقرب أيضًا.. لكن أبناء جيلى يشاهدونها على الشاشة.. وربما لأننا بعيدون إلى حد ما عن شظايا القتال؛ لا نزال نملك بعضًا من عقل يسأل عمَّا يحدث فى غزة. 

منذ ساعات وصلت أعداد من الجرحى.. أطفال مصابون بالسرطان.. يتلقون العلاج فى مستشفيات القاهرة.. يا الله أى سرطان هذا الذى يهاجم هؤلاء؟.. ألم يكفهم ذلك السرطان الذى توغَّل فى أراضيهم منذ ما يقرب من مائة عام؟

عشرات أتاحت لهم هذه الحياة القاسية فرصة جديدة للحياة مع الألم، حيث لم يدركهم البارود والغاز والجحيم الذى يتلقاه ذووهم منذ ما يزيد على الشهر فى غزة وما حولها. 

أحد الأطباء المصريين، اسمه أحمد عبدالعزيز، وبعد أن انتهى من إجراء عدد من الجراحات لمصابين فلسطينيين تمكنوا من العبور والقدوم إلى مصر.. قال للصحف إن معظم الذين تلقوا العلاج هم الناجون الوحيدون الباقون من عائلاتهم.. يا الله على ماذا سيفيق هؤلاء؟.. ومن سيفرح بنجاتهم؟.. إلى من سيتحدثون بعد أن يذهب البنج؟.. لمن تتركهم يا الله حيث لم يعد لهم أحد؟

المشاهد الواردة من قطاع غزة.. للأطفال الجرحى.. تمر الآن أمام عيون الجالسين على الأرائك وكأنها مشاهد فى فيلم أمريكى.. لا ينقصنا سوى زجاجات المياه الغازية وبعض المكسرات واللب.. ثم نقوم لنذهب إلى غرف نومنا نحلم بالانتصار على جنود رامبو.. ربما نتذكر أثناء الإعلانات والاستراحة أن نرسل عبر رسائل الموبايل عددًا من الجنيهات لجمعيات الإغاثة التى تشارك فى إرسال الطعام لإخوتنا، الذين لم يعد لهم طعام أو مأوى سوى زخات الرصاص. 

أربعون ليلة منذ بدأت أحداث الفيلم الجديد.. بعضنا تحاصره الهلاوس.. هل هى حرب حقًا.. أم مجرد فيلم آخر يمكن إضافته إلى قوائم الأفلام الأكثر قذارة فى تاريخ الإنسانية؟

نحن ننتظر منذ سنوات وهمًا اسمه ضمير العالم.. ننتظره فى الصحف، وفى كلمات المتحدثين باسم الإنسانية فى خطب الجمعة، وفى ترنيمات الكنائس، لكنه على ما أظن لا يعرف الطريق إلى بيوت الله. 

كثيرون يتحدثون عن عشرات المظاهرات الحاشدة فى لندن وباريس وفى أمريكا أيضًا.. الكل فى الشرق والغرب يتحدث عن هذه المظاهرات التى لا تتوقف؛ تندد بالحرب والدمار، وتدعو إلى وقف إطلاق النار وإنقاذ النساء والأطفال والعجائز، لكن الساسة.. معظم الساسة فى تلك البلاد لا يستمعون إلى تلك الحناجر التى تهتف.. جميعهم يخرجون بالبيانات.. أفضلها يتحدث عن هدنة.. مؤقتة.. تكتيكية.. ثم فليكمل آل صهيون طريقهم إلى الحرب.. بعض المظاهرات تدين تلك الوحشية وتلعن إسرائيل.. وتطالب ببترها من جسد العالم.. لكن فى كل الأحوال يذهب الكل إلى فراشه بعد أن يحتسى شرابًا ساخنًا.. وأطفال فلسطين لا يذهبون إلى الفراش.. لأنه لم يعد لهم أرض يفترشونها ولا سماء يلتحفون بها. 

كنت أقلب بحثًا عن غزة؛ فخرج لى صوت محمد قنديل يغنى لها من ألحان أحمد صدقى.. فداكى يا غزة.. استغربت لقد مات صدقى منذ سنوات بعيدة.. ومات محمد قنديل.. وعندما رحت أفتش عن التاريخ؛ وجدت أنهما كانا يغنيان لها منذ ستين سنة مضت.. نفس الكلمات التى نرددها الآن.. ستون عامًا من الهتاف.. ستون عامًا من القتل.. وأطفال غزة الذين ولدوا يومها ها هم الآن شيوخ عجزة لا يستطيعون الفرار من القصف.. ولا يستطيعون البقاء فى المشفى؛ فقد نفد الوقود.. لكن وقود الحرب لم ينفد بعد. 

لن تنتهى الحرب قريبًا.. ربما تتوقف آلياتها لسبب ما.. مؤقتًا.. ربما يصمد أهل غزة ستين سنة أخرى.. ربما ينتصرون فى معركة جديدة، كما انتصروا فى طوفانهم القريب.. لكن متى ينتهى ذلك السرطان الذى أسميناه حربًا ورحنا نبحث له عن ذريعة لوجوده فى حياتنا مثل الطعام والشراب.. ألم يقل أحدهم، أظنه من فلاسفة الهند.. نحن لا نأكل الحرب.. الحرب تأكل الجميع.. إلى متى إذن ستظل تأكلنا هذه الحرب؟