رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إنهم يكتبون تاريخًا جديدًا

ما يحدث فى منطقتنا العربية اليوم هو تاريخ جديد، بكل ما فيه جديد، حلوه، مره، مآسيه، أفراحه، جديد.

قد يستغرب البعض قولنا عن الفرح وسط كل هذه الجراح، نعم هناك أفراح شحيحة فى قلب المحنة.. أطفالنا الصغار الذين يقلبون فى أوراق فضائية مختلفة بحثًا عن معنى كلمة غزة، ومن أين جاءت، يستحقون الفرح.. بناتنا اللاتى رحن يبحثن عن متاجر بديلة من صنع مصر أو العرب أو حتى تركيا يستحققن الفرح.. لقد كنا نعيب على جمهور الكرة ونتهمه بأبشع التهم، وليس أقلها الميوعة والجهل والاستهتار.. وها هم فى مدرجات الأهلى والزمالك ينشدون للقدس وفلسطين العربية... هو تاريخ نستعيد فيه ما ظننا أنه ضاع.. نستعيد أرواحنا الميتة.. وسط ذلك العار الذى يجلل العالم الذى كنا نعتقده عالمًا حرًا. 

هى حرب.. سوف ينتصر أحد طرفيها.. لكنها هذه المرة ليست كذلك.. ربما يطول الصراع.. لكن جنودًا جددًا من بين ملايين حاولوا تغييبها لسنوات يستفيقون الآن ويصطفون خلف معانٍ كنا نظن أنها ديست تحت قهر آلة الإعلام الغربى منذ سنوات.. لقد كسبنا الكثير فى الأيام القليلة التى مضت.. وفى انتظار أن نكسب جغرافيا جديدة حتمًا هى قادمة.. فما قبل ليس كمثل ما هو آت. 

ما يقرب من عشرة آلاف شهيد رقم صعب ومؤلم.. وربما يتضاعف العدد فى الأيام المقبلة تحت أنقاض غزة.. فالجنون الصهيونى المتوقع بعد صدمة فشل الاجتياح، الذى أسموه محدودًا، قد يدمر الكثير ويسحق فى طريقه أرواحًا بريئة لا يستطيع العالم، الذى كنا نظنه حرًا، أن ينقذها. 

حاول الصهاينة بهذه العملية المدعومة أمريكيًا ببجاحة غير مسبوقة كسب انتصار داخلى سريع من ناحية، وفتح طريق نحو استعادة هيبة مفقودة، وربما الوصول إلى المحتجزين من جنودهم فى خنادق وأنفاق حماس.. لكنهم فشلوا مجددًا.. الحسبة غلط هذه المرة أيضًا.. لكنها وإن قصمت ظهر المغرورين من قادة الكيان، فقد شدت من أزر ومعنويات الذين يدافعون عن أرضهم وبيوتهم وأطفالهم وكرامتهم.

فرحة المصريين على المقاهى بفشل الاجتياح البرى والبحرى والجوى، الذى أسماه العدو محدودًا، لا توصف.. صحيح فى الحلق غصة.. وفى العيون حزن على من ذهبوا ضحية ذلك الغرور الفاجر.. لكننا فرحنا أن هناك أملًا فى أن ينكسر هذا المحتل الغاصب.. أمام جنود فلسطين فرصة.. اختفت همومنا الخاصة.. لدرجة أن بعض من راحوا يحسبون خسائر المصريين فى قطاع السياحة منذ السابع من أكتوبر، وقد حددها بعضهم بثلاثة ملايين دولار.. هؤلاء لم يجدوا من يسمع لهم.. لى صديق يعمل فى شرم الشيخ.. وكان قد عانى فى السنوات الأخيرة بسبب كورونا والحرب الروسية كثيرًا.. ولم يستفق إلا من شهور قليلة.. كان يجلس بيننا غاضبًا.. لكنه فوجئ بالجالسين يواجهونه بغضب أشد.. ثم قال له أحدهم: هل تركك الله فى السنوات الماضية؟.. رغم كل ما حدث ها أنت تعيش.. ومن كان معك ومعنا فى السنوات الماضية لن يخذلنا فيما هو قادم.. صديقى لم يطل فى جلسته وغضبه كثيرًا.. وفى اليوم التالى جاء ليعتذر مرددًا: الأرزاق على الله، ثم أضاف: بس لو كان ف إيدنا نخلص منهم.. كان الواحد ارتاح.. ثم راح يتحدث فى تفاصيل عملية الاجتياح الفاشلة. 

كثيرون من أهلنا أتعبتهم ظروف أعمالهم التى تعطلت.. والأسعار التى تضاعفت.. والأسواق التى ارتبكت.. لكن عقول المصريين لم ترتبك، وقلوبهم ما زالت بيضاء من غير سوء، تعرف عدوها جيدًا.. وتتابع بفخر تحركات رجالنا وجيشنا.. المصريون كما هم لم تغيرهم سنوات التشويش والزيف.. يغضبون.. يسخرون من أنفسهم أحيانًا.. لكنهم ساعة الجد، وعند أول اختبار حقيقى حاضرون وجاهزون. 

تلك الحفاوة الشديدة بموقف الممثل الشاب محمد سلام.. ومن قبله محمد صلاح وباسم يوسف.. تلك الدعوات المتناثرة لمقاطعة منتجات الدول التى تؤيد العدوان.. رغبة شباب غير قليل فى الذهاب إلى غزة.. كل تلك التفاصيل تقول إننا نستعيد كتابة تاريخنا.. وتاريخ علاقتنا بذلك العدو.. لسنا دعاة حرب نعم.. لكننا لم ننس شهداءنا.. لم ننس معاركنا ومعارك أمتنا.. نعرف أمننا القومى جيدًا.. ونحفظ حدودنا.. ونعرف أننا يومًا سنكتب الجغرافيا أيضًا، ولكن على هوانا.. وليس كما يريد آل صهيون ومَنْ هم خلفهم يخططون ويرسمون ويتآمرون.

الأيام المقبلة ليست سهلة.. هذا ما نعرفه.. وأول الحرب هو أننا فى حاجة إلى العمل.. لا توجد لدينا رفاهية التوقف.. عدونا يسعى إلى ذلك.. المدرسون فى مدارسهم يحتاجون إلى وقت إضافى لحصة الدين واللغة والتاريخ.. العمال فى مصانعهم يحتاجون إلى وقت أطول لصنع منتج محلى بديل بجودة عالية.. المزارعون فى غيطانهم فى حاجة إلى مضاعفة إنتاجهم لتحقيق وفرة نحتاجها.. لا نعرف إلى أين ستذهب بنا أيامنا المقبلة.. لكننا نعرف أنها الحرب.. وأننا فى القلب منها.. وأبناء فلسطين ليسوا وحدهم حتمًا.. والمقصودون بهذه الحرب ليسوا أهل غزة وحدهم.. هذا ما نظنه وبعض الظن ليس إثمًا.. فهل نتوقف قليلًا لنعرف إلى أين سنمضى.. وماذا سنفعل لنخرج من هذه الحرب بانتصار نستحقه؟