رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حماس وإسرائيل.. عَودٌ على بدء


يُدرك الجميع ما يعانيه قطاع غزة المحاصر منذ عشرين يومًا حتى كتابة هذا المقال  من وضع إنساني سيئ جدًا، لا يمكن وصفه من جميع النواحي، في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي عليه، ردّا على هجوم «طوفان الأقصى».. لكن لا أحد يُنكر أن مصر تبذل قصارى جهدها من خلال اتصالات دبلوماسية مكثفة على المستويات كافة، من أجل ضمان نفاد المساعدات الإنسانية، إيمانًا منها بعدم إمكانية استمرار الوضع الإنساني المأساوي الذي يعيشه سكان القطاع، تحت نيران القصف الإسرائيلي المُستعر والحصار المفروض، وهذه هي الأولوية التي تركز عليها مصر في الوقت الحالي.
وقد خاطبت مصر العالم لضمان دخول المساعدات الإنسانية بشكل فوري ومستدام للقطاع.. وفي السياق، أصدر وزراء خارجية كل من الأردن، الإمارات، البحرين، السعودية، عمان، قطر، الكويت، مصر، المغرب، بيانًا يوم أمس، تضمن إدانة ورفض استهداف المدنيين، وكافة أعمال العنف والإرهاب ضدهم، وجميع الانتهاكات والتجاوزات للقانون الدولي، بما فيه القانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان من قِبَل أي طرف، بما في ذلك استهداف البنية التحتية والمنشآت المدنية، إدانة التهجير القسري الفردي أو الجماعي، وكذلك سياسة العقاب الجماعي.
وطالبت الدول الموقعة على البيان مجلس الأمن بإلزام الأطراف بالوقف الفوري والمُستدام لإطلاق النار، التأكيد على أن التقاعس فى توصيف الانتهاكات الصارخة للقانون الدولي الإنساني، يعد بمثابة منح الضوء الأخضر لاستمرار هذه الممارسات، وتورط في ارتكابها، المطالبة بالعمل على ضمان وتسهيل النفاذ السريع والآمن والمستدام؛ للمساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، دون عوائق وفقًا للمبادئ الإنسانية ذات الصلة.
إلا أنه، وفي ظل هذه الظروف المأساوية، وفي محاولة منها لإشعال الموقف ومنع أي تهدئة، جدَّدت حركة «حماس»، دعوتها للشعب الفلسطيني والشعوب العربية والإسلامية إلى المشاركة، اليوم والأحد القادم، في حراك لفتح معبر رفح ووقف الإبادة المستمرة بحق المدنيين العُزَّل في قطاع غزة، تحت شعار: «افتحوا معبر رفح وأوقفوا حرب الإبادة على غزة».. وهي الدعوة التي قُوبلت باستنكار واسع على مواقع التواصل الاجتماعي، لأن الكل يرى أن تلبية هذه الدعوة يعتبر نجاحًا لمخطط تنظيم الإخوان في حشد الجماهير، وبالتالي العودة للفوضى التي خلفتها موجة ما سُمي بـ «الربيع العربي»، وأدّت إلى تدهور اقتصادي وتفكك مجتمعي، حتى إن أحد الذين علقوا بالرفض، على وسائل التواصل الاجتماعي، قال إن «الغرض من التظاهر اللي بيطلبوه، هو إنهم يحطوا مصر ومعبر رفح في جملة مفيدة.. وليه بيطالبوا بحشد وتظاهر لفتح المعبر، مع إنه مفتوح والمساعدات بتدخل كل ساعة؟.. هنا يبقى المطلوب حاجة تانية غير فتح المعبر لدخول المساعدات!».
وبهذه المناسبة، وكرد فعل على ما نشرناه على موقع جريدة الدستور، يوم الثلاثاء الماضي، بعنوان «عندما ينقلب السحر على الساحر»، الذي تناول الدور الإسرائيلي في تقوية حماس على حساب السلطة الفلسطينية الشرعية في رام الله، عملًا بمبدأ فرق تَسُدْ، سألني البعض: لماذا ساعدت إسرائيل في إنشاء حماس؟.. وكيف استخدمت مواردها لهذا الغرض؟.. هل عززت إسرائيل، من خلال اتخاذ إجراءات وحشية في غزة، حماس؟.. وكيف انقسم النضال الفلسطيني وضعُف عندما تحدت حماس منظمة التحرير الفلسطينية، وهي منظمة وطنية، منذ تأسيسها عام 1964؟.
ولهؤلاء أقول، إن غزة، التي احتلتها إسرائيل نتيجة للحرب العربية الإسرائيلية في يونيو 1967، كانت ترعى الجماعة الإسلامية التي شكَّلها رجل الدين الفلسطيني، الشيخ أحمد ياسين، واعتبرتها منظمة غير ضارة، تشارك في الأعمال الخيرية والرعاية الاجتماعية للمجتمع الفلسطيني في غزة.. أصبحت الجماعة الإسلامية فيما بعد «حماس»، قبل إطلاق الانتفاضة الأولى في ديسمبر 1987.. اعتبرت إسرائيل الجماعة الإسلامية والمنظمة التي خلَّفتها «حماس» أهون الشرين، مقارنة بمنظمة التحرير الفلسطينية، واعتقدت أن تقسيم الفلسطينيين سيخدم مصلحة الدولة اليهودية.
وإذا كانت إسرائيل قد وصفت منظمة التحرير الفلسطينية بأنها «منظمة إرهابية»، وكانت تعتبرها تهديدا كبيرا لمصالحها، فإن حماس كانت أيضًا ضد منظمة التحرير الفلسطينية، بسبب نظرتها العلمانية والقومية.
هكذا كان يُنظر إلى كل من حماس وإسرائيل كحليفين طبيعيين ضد منظمة التحرير الفلسطينية.. ولكن في وقت لاحق، عندما قتلت حماس، عام 1988، اثنين من أفراد الجيش الإسرائيلي في غزة، انقلبت إسرائيل ضد حماس، ولكن بعد فوات الأوان.. حماس، التي وصفت نفسها في وقت سابق بأنها منظمة خيرية في غزة وحصلت على خدمات من إسرائيل، استغلت عملية السلام بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل لكسب الدعم الشعبي، لأولئك الفلسطينيين الذين خاب أملهم من إصلاح ياسر عرفات للأسوار مع الدولة اليهودية، على الرغم من مقتل مئات الفلسطينيين في الانتفاضة الأولى.
إن الأسف بين المسئولين الإسرائيليين الذين ساعدوا في إنشاء حماس مُوثَّق جيدًا.. على سبيل المثال، أعرب أفنير كوهين وهو يهودي مولود في تونس، كان مسئولًا إسرائيليًا في غزة، يتعامل مع الشئون الدينية خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي عن أسفه، لأن «حماس، للأسف الشديد، هي من صُنع إسرائيل.. ولاحظ أن الحركة الإسلامية تتشكل، وتنحي المنافسين الفلسطينيون الآخرين جانبًا، ثم تطورت إلى ما يعرف اليوم بحماس.. وقال كوهين إنه «بدلًا من محاولة كبح جماح الإسلاميين في غزة منذ البداية، تسامحت إسرائيل لسنوات معهم، وفي بعض الحالات شجعتهم، كثقل مُوازٍ للقوميين العلمانيين في منظمة التحرير الفلسطينية وفصيلها المهيمن «فتح» بزعامة ياسر عرفات.. تعاونت إسرائيل مع رجل دين قعيد ونصف ضرير، يُدعى الشيخ أحمد ياسين، حتى عندما كان يضع الأسس لما سيصبح حماس».. هل يعني ذلك أن حماس كانت ذكية بما يكفي لتفادي جهاز المخابرات الإسرائيلي، من خلال تصوير نفسها على أنها منظمة رعاية وخيرية، من أجل ترسيخ نفسها في غزة، ومن ثم مواجهة إسرائيل؟.
بين يونيو 1967 و2005، كانت غزة تُدار من قِبَل الجيش الإسرائيلي.. وفي عام 2005 انسحبت إسرائيل من غزة، ولكن عندما سيطرت حماس على هذا القطاع الفلسطيني عام 2007، فرضت حصارًا بريًا وجويًا وبحريًا على تلك المنطقة.. فكيف ساعدت إسرائيل في إنشاء حماس؟.
يقول أندرو هيجينز، وهو مسئول إسرائيلي عَمِلَ في غزة في ثمانينيات القرن الماضي، في مقابلة مع صحيفة «وول ستريت جورنال» عام 2009، «عندما أنظر إلى الوراء في سلسلة الأحداث، أعتقد أننا ارتكبنا خطأً، ولكن في ذلك الوقت لم يفكر أحد في النتائج المحتملة.. نظرت الإدارة التي يقودها الجيش الإسرائيلي في غزة بشكل إيجابي إلى رجل الدين القعيد، الذي أنشأ شبكة واسعة من المدارس والعيادات والمكتبات ورياض الأطفال.. شكَّل الشيخ ياسين «الجماعة الإسلامية»، التي اعترفت بها إسرائيل رسميًا كجمعية خيرية، ثم في عام 1979، كجمعية.. كما أيدت إسرائيل إنشاء الجامعة الإسلامية في غزة، التي تعتبرها الآن مرتعًا للتشدُّد.. كانت الجامعة واحدة من الأهداف الأولى التي ضربتها الطائرات الحربية الإسرائيلية في عملية 2008 2009.. ثم تحولت جماعة ياسين إلى حماس.. نفس الشيخ ياسين الذي رعته إسرائيل ضد منظمة التحرير الفلسطينية، قُتِلَ في غارة جوية إسرائيلية عام 2004.. وبحلول ذلك الوقت، كانت حماس قد برزت كمنظمة مسلحة قوية، تنتزع السيطرة على غزة من منظمة التحرير الفلسطينية، وتُعلن نفسها كمنظمة إسلامية تحُث سكان غزة على اتِباع الشريعة، ولا سيما فرض الحجاب كقاعدة لباس للنساء.
هل كان قصر نظر رئيسي الوزراء الإسرائيليين، مناحم بيجين وإسحاق رابين، هو الذي حال دون فهمهما الدوافع الحقيقية لحماس، حيث تبين أنها أكثر خطورة من منظمة التحرير الفلسطينية؟.. وقد أصبحت الاشتباكات بين منظمة التحرير الفلسطينية وحركة حماس شائعة في غزة، وهو مصدر ارتياح لإسرائيل، التي أرادت أن ترى الاقتتال الداخلي الفلسطيني.. يقول العميد شالوم هراري، الذي كان آنذاك ضابطًا في المخابرات العسكرية في غزة، إنه تلقى مكالمة من جنود إسرائيليين يحرسون نقطة تفتيش على الطريق المؤدي إلى غزة.. كانوا قد أوقفوا حافلة تقل نشطاء إسلاميين يريدون الانضمام إلى المعركة ضد فتح في بيرزيت..«قلت: إذا أرادوا حرق بعضهم البعض فليذهبوا».. ويتذكر هراري «انصب التفكير العسكري الإسرائيلي، خلال ذلك الوقت، على الاغتقاد بأنه سيكون من الرائع أن تستمر فتح وحماس في قتال بعضهم البعض، لأن ذلك سيزيل تركيزهم على محاربة إسرائيل».
علاوة على ذلك، قال العميد إسحاق سيجف، الذي كان الحاكم العسكري الإسرائيلي في غزة أوائل ثمانينيات القرن العشرين، لمراسل «نيويورك تايمز»، أنه ساعد في تمويل الحركة الإسلامية الفلسطينية باعتبارها «ثقلًا موازنًا للعلمانيين واليساريين في منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح، بقيادة ياسر عرفات الذي أشار هو نفسه إلى حماس على أنها صنيعة إسرائيل».. حتى إن الجنرال سيجيف اعترف بتمويل حماس بنفسه، بأموال دافعي الضرائب الإسرائيليين، التي استخدمت لاحقًا لقتل نفس الأشخاص الذين كانوا يمولونهم.
يمكن للمرء أن يستخلص استنتاجين من كل ما سبق.. أولًا، كان من المصلحة الإسرائيلية البحتة، دعم ورعاية الجماعة الإسلامية التي تحولت إلى حماس تاليًا.. وهذا يعني أيضًا، أنه مثل الولايات المتحدة، التي صنعت وغذَّت مختلف الجماعات الجهادية في أفغانستان وأماكن أخرى لا يمكن لإسرائيل الهروب من مسئولية صُنع حماس.. ثانيًا، صعود حماس في تسعينيات القرن الماضي، وبعد ذلك ضعف منظمة التحرير الفلسطينية والمجتمع الفلسطيني، عزز الاحتلال الإسرائيلي على الضفة الغربية والحصار المفروض على غزة.. ومن هنا تأتي المحن الدائمة للفلسطينيين.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.