رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أحفاد طه حسين يعيدون اكتشاف كتاباته وأفكاره الأدبية والنقدية ومواقفة المتناقضة

طه حسين
طه حسين

- «البلاغة العمياء» يستكشف مشاهدات العميد فى اليونان وفرنسا ومقارناته الذكية بين الحاضر والماضى   

- «هوامش العميد» مراجعة متأنية لما كتبه من مقدمات وخواتيم للكتب والمقالات والمقابلات والإهداءات 

على الرغم مما شهدته كتابات العميد طه حسين من اهتمام بالغ منذ وفاته وحتى وقتنا هذا، إذ نحيى ذكرى مرور خمسين عامًا على وفاته، فإن جوانب مهملة فى التعاطى النقدى والفكرى مع كتابات طه حسين تسترعى انتباه بعض الباحثين من حين لآخر، بل إن بعضهم يهدف إلى استكمال مشواره الفكرى والنقدى، بمعنى أن ينطلق من قاعدة ما كتبه العميد نحو مقاربة قضايا فكرية تفرض نفسها رغم تعاقب السنوات، لكن هذه المحاولة لا تزال حية إلى اليوم ولم يفرز منها ما يمكن اعتباره استكمالًا لمسيرة العميد الفكرية والثقافية.

على مستوى الدراسات الفكرية، يمكن ملاحظة أن التكرار هو السمة الأبرز فى معظم الكتابات التى تُعيد تدوير المعارك القديمة بصياغات جديدة تنطلق أحيانًا من منظورات مغايرة وفى أحيان أكثر من المنظور ذاته. أما على صعيد الدراسات النقدية للأعمال الأدبية فثمة محاولات مستمرة لاستبصار ما لم يدركه آخرون من قبل، وهى محاولات قد تقود إلى تحليلات نقدية معمقة أو إلى استعراضات متعجلة وسطحية.

«البلاغة العمياء: بحث فى الخيال الرحلى» للناقد ممدوح فراج النابى، و«هوامش العميد.. ملامح التجربة المعرفية عند طه حسين» للناقد أيمن بكر، هما كتابان نقديان صدرا هذا العام، ويهدف كلاهما إلى طرق أبواب ما أُهمِل من كتابات العميد، أو ما أُغفِل من هوامش يمكن أن تصير دليلًا لعالميه الفكرى والأدبى على حد سواء.

يركز كتاب «البلاغة العمياء: بحث فى الخيال الرحلى عند طه حسين» للناقد المصرى ممدوح فراج النابى، وهو الكتاب الصادر هذا العام عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر»، والفائز بجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة- على واحد من الأعمال الأدبية المُهمَلة لعميد الأدب العربى طه حسين وهو كتاب «رحلة الربيع والصيف».

صدر كتاب «رحلة الربيع والصيف» فى عام ١٩٥٧، وهو نموذج نادر فى كتابات أدب الرحلة، إذ إن الشائع والجوهرى بدرجة كبيرة فى كتابات الرحلة أن يكتبها مبصرون لديهم القدرة على نقل مشاهداتهم وما تلتقطه أبصارهم بالبلدان المختلفة إلى القارئ عبر الكتابة، غير أن طه حسين فى كتابه هذا يكسر القاعدة ويتغلب على إعاقته البصرية عبر تحايلات شتى يلتقطها «النابى» فى كتابه النقدى.

لا تقتصر أهمية كتاب طه حسين فقط على كونه لم يحظ باهتمام نقدى يُذكر، وإنما لكونه جامعًا لبراعة أسلوبية تجسد بلاغة العميد العمياء وقدرته ليس فقط على التعبير عن البلد الذى يكتب عنه بالحواس غير البصرية وإنما كذلك بإيهام القارئ برؤيته لشتى التفاصيل التى ربما قد لا يلتفت إليها مبصر، هذا فضلًا عن تجسيده أفكار العميد التنويرية التى تنساب بالكتاب عبر أساليب مختلفة.

يلتقط «النابى» فى كتابه الأبعاد المختلفة التى يحملها كتاب طه حسين «رحلة الربيع والصيف»، فالرحلة عند العميد لا تقتصر على الاستكشاف والمتعة وإنما تتعدى ذلك إلى التأمل فى السياقات التاريخية والمنجزات الحضارية والخروج من هذا التأمل نحو نقد الأطر الثقافية والسياسية التى تحكم بلاده التى إن كانت أعماله الفكرية تكشف عنها بوضوح، فهى تنساب بكتابة أدبية رشيقة فى هذا الكتاب.  

يتطرق الكتاب النقدى إلى رحلة طه حسين إلى اليونان التى انتقل فيها العميد من وصف الأماكن إلى استرجاع عظمة الحضارة اليونانية القديمة ومنجزاتها. ذلك التنقل ما بين الماضى والحاضر، والأنا والآخر يحضر أيضًا فى رحلة العميد إلى فرنسا التى من خلالها يعقد المقارنات بين تقدم حضارى يشهده الغرب ممثلًا فى فرنسا ورِدة ثقافية لا تغادر بلاده.

يستدعى «النابى» من حضور الجانب الثقافى فى رحلتى طه حسين، ذلك التلاقى ما بين العميد والطهطاوى فى رحلاتهما التى كانت منشغلة بصورة أساسية بإشكالية التردى الحضارى وبصورتى الأنا والآخر على الرغم من الاختلافات الأسلوبية ما بين الكاتبين؛ فالرحلتان إلى اليونان وفرنسا عند طه حسين أثبتتا انحيازه إلى الماضى متمثلًا فى الحضارة اليونانية من جانب، وراهن الحضارة الغربية آنذاك متمثلًا فى التقدم الفرنسى على شتى المستويات من جانب آخر

مع ما يمثله رصد الجانب الفكرى فى رحلتى الربيع والصيف من أهمية لربطه ما بين حاضر الكاتب والماضى، وطرحه تجليًا آخر مغايرًا لانشغالات المفكرين العرب منذ الطهطاوى وحتى طه حسين من منظور أدب الرحلة- فإن كتاب «البلاغة العمياء» بتركيزه على العناصر الأسلوبية والسمات السردية فى كتاب «رحلة الربيع والصيف» يكتسب أهمية كبرى لما يضطلع به من كشف عن خصائص ما سُمى بـ«الكتابة العمياء».

كانت الإعاقة البصرية تحديًا كبيرًا أمام طه حسين منذ طفولته سعى إلى التغلب عليها بشتى الوسائل الممكنة وأن يخرج من أسار النظرة الضيقة للمكفوفين، وربما يمكن اعتبار السمات الأسلوبية الحاضرة فى هذا الكتاب تعبيرًا عن تمرد العميد على إعاقته ورفضه الارتهان لقواعدها، هذا ما دفعه، وفق ما يوضحه النابى فى كتابه، إلى الجمع ما بين الحواس غير البصرية وكذلك الحواس البصرية فى وصف أجواء رحلتيه.

أراد حسين ألا يُشعر القارئ بأن ثمة نقصًا ما فى الكتابة عن أجواء الرحلة، فعمد إلى وصف تفاصيل المكان وحركة المرافقين ورفاق الرحلة ووصف تعبيرات وجوههم وملابسهم بدقة، علاوة على وصف الآثار التى يمر بها وأجواء المكان والزمان بصورة تسهم فى الإيهام الكامل بالوصف المبصر.

ولم يكتف «حسين» بذلك، وإنما استحضر الحواس غير البصرية للتحايل على الإعاقة البصرية بصور فنية مدهشة، فاعتمد على أفعال الحواس والشعور فى وصف ما يسمعه ويشعر به كما وظّف الأطر البلاغية والعجائبية لمزيد من التوصيف والتعبير عن الذات وأفكارها.

لا يقتصر تحليل «النابى» لمقومات السرد فى كتاب الرحلة عند هذا الحد، وإنما يتطرق أيضًا إلى دلالات استخدام العميد الضمائر المختلفة فى السرد وما قادت إليه من معانٍ ثرية، فيشير فى هذا الصدد إلى استخدام الكاتب ضمير الغائب فى الحديث عن نفسه وأحيانًا الضمير المخاطب ليضع مسافة سردية بين ذاته وما يروى رغبة منه فى تحرى الصدق، وجنوحه إلى ضمير المتكلم إن رغب فى الالتصاق بذاته.

واحدة من الانتباهات اللافتة التى تعرّض إليها المؤلف فى هذا الكتاب تتعلق بربطه الخصائص السردية والفكرية فى رحلتى طه حسين بالسياقات السياسية والاجتماعية التى كان يعيشها الكاتب فى هذه الفترة، فيلقى الضوء على رحلة فرنسا التى عُدت بالنسبة للعميد تسرية عن النفس بعد التهم التى وجهت إليه عقب نشر كتاب «فى الشعر الجاهلى» وما أعقب الأزمة من اتهامات له، هذه المحنة التى يهرب منها العميد تُلقى على الرغم من ذلك بظلالها على رحلته فتدفعه للتركيز على ملامح البيئة الفكرية الديمقراطية فى فرنسا، وتبين ألمه مما واجهه فى وطنه مقابل تسامح ورحابة فى استقبال الآراء المخالفة يشهدها لدى الآخر، وهو ما جعل رحلته تلك مرتكزة على مقاربة الأوضاع فى وطنه بالتقدم والمعرفة والتسامح فى فرنسا مفضلًا بالتأكيد الحياة الفرنسية بمختلف تفاصيلها.

ونظرًا لأن الرحلة كان الهدف منها هو الاستراحة من المتاعب، فإن ثمة رحلة باطنية تخللت عالم طه حسين الداخلى رغبة منه فى الهروب من اللغو وتأمل ذاته من جديد، وفى سبيل ذلك يلجأ لاستدعاء صاحب يرافقه ويتحاور معه كما يستقبل رسائل الأصدقاء ويرد عليهم داخل متن الرحلة، ليعبر عبر هذا وذاك عن رؤيته لقضايا اجتماعية وثقافية وفلسفية وعن رؤيته لذاته فى المقام الأول. وعلى الرغم من أن المؤلف يقدم تحليلًا نقديًا متكاملًا لكتاب «رحلة الربيع والصيف»، فإن هوامش الكتاب وخاتمته لا تقلان أهمية عن المتن. ففى الهوامش يقيم المؤلف شبكة علاقات بين أفكاره عن هذا النص الرحلى وما يعضدها فى كتابات العميد الأخرى وهو ما يكشف عن إحاطته بما كتب العميد وكذلك ما كُتِب عنه، أما الخاتمة فتفتح من خلال توصيات المؤلف الباب أمام الباحثين لاستكمال ما أُهمل فى أدب طه حسين، وعلى رأسها ملامح الرحلة فى كتابات العميد التى لا تندرج تحت تصنيف «أدب الرحلة».

فى سعى منه إلى استكشاف ما أُهمِل من كتابات العميد ودلالاته المختلفة، يختار الناقد أيمن بكر فى كتابه «هوامش العميد.. ملامح التجربة المعرفية عند طه حسين» الوقوف على هوامش كُتب العميد وما تحمله من استبصارات تؤكد المتون أو تجافيها. ولتحقيق ذلك، يتوقف بكر أمام مقدمات الكتب وخواتيمها والمقالات الصحفية القصيرة والمقابلات وإهداءات الكتب وما كتبه حسين بالفرنسية من مقالات.

يقول «بكر» إن هدفه من التركيز على الهوامش هو استقصاء ملامح التجربة المعرفية لطه حسين، التى تنتثر فى الهوامش أكثر مما تظهر فى المتون، فيوضح أن مفهوم التجربة المعرفية يعنى «تلك القواعد التى تحكم توجُه حسين نحو المعرفة أى أسس تعامله معها وطرائق تكون المعرفة وإنتاجها ومدى تفاعلها داخل عقله»، أو مجموعة القواعد العميقة غير الواعية أحيانًا التى تحدد أهداف التوجه إلى المعرفة وطرق التعامل معها تحصيلًا وإنتاجًا، التى تظهر فيما يعلنه الكاتب سواء بصورة مكثفة مقصودة أو فى صورة شذرات متناثرة فى مقدمات الكتب وخواتيمها وتعليقات الكتاب على أعمال غيرهم والحوارات والمواقف من الخصوم.

يختار «المؤلف» مقدمة وخاتمة كتاب «مع المتنبى» لطه حسين للتعرف على ملامح هذه التجربة المعرفية، فيصل إلى تشابه ما بين مفهوم النفس لدى طه حسين ومفهومه لدى المصرى القديم،  فلدى الأخير تمثل النفس ثنائية متوزعة بين طاقة الحياة الساعية للخلق والإبداع والحركة، وبين الطاقة الراغبة فى الاستمتاع والهدوء والاسترخاء، فيصل المؤلف بتحليله للمقدمة والخاتمة إلى أن الصراع بين هذين المكونين يمثل جزءًا معرفًا لتجربة حسين المعرفية.

يرى بكر أن مقدمة مع المتنبى تخبر عن تجربة طه حسين المعرفية أكثر من الكتب، إذ يشير فيها إلى النوعين من الطاقة أو النزوع؛ نزوع نحو الخلق والإبداع وارتياد المجهول ونزوع إلى الدعة والعودة إلى حالة السكون الآمن ويختار الحركة والتغيير اللذين يُعدان الثابت الوحيد فى تجربة طه حسين المعرفية. 

عبر النظر فى غياب المراجع والإحالات فى كتاب طه حسين الشائك «فى الشعر الجاهلى»، يعقد المؤلف مقاربة تكشف عن تناقض فى موقف العميد من الشعر الجاهلى، وذلك عبر توضيح ملامح الجانب الشفوى الذى ميّز عقلية طه حسين، واعتماده على المعايير الكتابية غير الشفاهية فى محاكمة الشعر الجاهلى بما يخالف أساسًا طبيعة العصر الذى ظهر فيه الشعر الجاهلى، وكذلك الجانب الشفاهى فى فكر طه حسين.

يوضح «بكر» أن الجانب الشفوى فى عقلية طه حسين بأثر من فقدانه البصر وتعليمه الأزهرى لا يمكن إنكاره بل إنه يظهر فى أدائه العقلى وأسلوب كتابته المعتمد على التأكيد اللفظى والصيغ المتكررة والمجافى لذكر التوثيق والمراجع، ومع ذلك، فإن حكمه على الشعر الجاهلى يجافى عقليته الشفوية ويعتمد فيه على آليات العقل الكتابى فى الحكم على نص شفوى خالص، وهو ما يعتبره المؤلف تناقضًا دالًا.

يلقى «المؤلف» الضوء على بعض من المواقف والأفكار التى عبّر عنها طه حسين فى مقالات وحوارات ولم تلق تحليلًا كافيًا ولكنها تكشف عن جوانب من تجربته المعرفية. من هذه الأفكار موقفه من تعليم اللغات الأجنبية والترجمة، فيبين المؤلف وعى العميد بأهمية اللغة فى فهم العالم بوصفها أداة للتفكير، والذى يظهر فى حديثه عن علاقة اللغة بالفكر، وذلك عن طريق التعرف إلى آداب الثقافات الأخرى وطرائق تفكيرها.

ومما بيّنه «الكاتب» من خلال مقدمة كتاب «مع أبى العلاء» لطه حسين هو فكرة الصوت والصدى، إذ يرى أن المقدمة تكشف عن أن طه حسين قد جعل من ذاته صدى لصوت أبى العلاء، ومن خلال حديثه عن أبى العلاء كان يقصد نفسه ويعقد مقاربة بين تجربتيهما الفكريتين وصلت حد التوحد فى كثير من جوانبها.

فضلًا عن ذلك، سعى المؤلف من خلال إعادة النظر فى مقدمة كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر» إلى إثبات عدم تمحور الكتاب حول قضية التعليم وإنما يتجاوزها إلى إثبات أن طه حسين كان يهدف إلى مناقشة دور الثقافة بشكل عام فى لحظة تاريخية حرجة، وأن تلقى المشروعات الفكرية الكبرى يحتاج إلى إعادة النظر لتخليصه من عورات النظرة القاصرة.