رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صاحب «البعيدون» بهاء الطود.. وداعًا

وسط الجو الكابوسى الذى تعيشه المنطقة بسبب ما يحدث لأهلنا فى فلسطين المحتلة على يد أحقر احتلال شهدته البشرية، مدعومًا بالغرب الذى يتشدق بحقوق الإنسان والديمقراطية، عرفت بخبر رحيل صديقى العزيز والروائى المغربى الكبير بهاء الدين الطود يوم ١٧ من الشهر الجارى، بعد صراع مع المرض. تعرفت إليه مطلع الألفية بعد صدور روايته الفريدة «البعيدون» عن دار الهلال، التى كانت حدثًا ثقافيًا، ليس فقط بسبب تناولها الصراع الحضارى بين الشرق والغرب، الرواية عبارة عن رحلة اغتراب وإبحار على امتداد الزمن كما كتب محمد الخطابى، هى رحلة ومعاناة على امتداد الزمن والمكان، والمسافات، على متن قارب لازوردى شراعه ظلال الكلمات، وبوصلته أطياف الذكريات، هذه الرواية تشدك إليها بقوة منذ الوهلة الأولى، ولا تنفلت منها إلا وأنت تتنفس الصعداء مع البطل فى آخر صفحة منها، حيث يصل الكاتب بالقارئ إلى بر الأمان بعد رحلة مضنية، ونقلة ممتعة فى آنٍ واحد إلى عالم مسحور مشحون ومفعم بفيض من الذكريات والمسامرات والمغامرات من طرف الكاتب فى كل من مدريد وأمستردام ولندن، فى فترات متفاوتة من عمر البطل. فتحت هذه الرواية شهية النقاد المصريين وتعاملوا معها باعتبارها حدثًا عربيًا مهمًا، وتحمس لها كثيرون على رأسهم جابر عصفور وصلاح فضل، قدمها صاحب «الخبز الحافى» محمد شكرى بقوله: «لقد أتى صاحب (البعيدون) إلى الكتابة عن طريق السحر المتبلور، فأجاد فى صناعة الدهشة الحضارية بين الشرق بقدر ما أجاد فى تكثيف الصدام بين ثقافة الأنا والآخر فى سرد روائى ليّن وراقٍ، وبأسلوب أخاذ شاعرى وشفاف، لا يقوى عليه إلا من يجيد حبكة القبض على جمرة الخيط الروائى». فى مدينة القصر الكبير شمال المغرب ولد بهاء، وبعد رحيل والده انتقل إلى مدينة أصيلة، وهو فى العاشرة من عمره، ليعيش مع جدته، وبعد المرحلة الثانوية سافر إلى إسبانيا من أجل دراسة الصحافة، ثم تخصص فى القانون بعد ذلك، وكانت دراساته العليا فى هذا المجال موزعة بين الرباط وباريس، وهو أخ غير شقيق لوزير الخارجية والثقافة المغربى الأسبق محمد بن عيسى. روايته الجميلة، التى كتبها فى سن متأخرة، تناقش الهجرة والاغتراب والتصادم الحضارى ونظرة الآخر، وتدور أحداثها فى معظمها بين مدريد ومدينة القصر الكبير، بطلها شاب عربى يدرس فى إسبانيا خلال مرحلة حكم الديكتاتور فرانكو. بعدها بعشر سنوات أصدر رواية «أبوحيان التوحيدى فى طنجة»، وفيها استدعى «التوحيدى» وألقى به فى أيامنا هذه، لتلقى الشرطة الإسبانية القبض عليه بتهمة الهجرة غير الشرعية، وهو القادم من زمن آخر للقاء حبيبته نهاوند فى مدينة كان يعتقد أن العرب المسلمين لم يُطردوا منها. وله أيضًا كتاب جميل يحمل اسم «كدت أعترف» أقرب إلى السيرة الذاتية. حين كان يُسأل عن قلة إنتاجه كان يستشهد بتجربة «همنجواى»، الذى خلق حالة أدبية فريدة فى العالم بنصوص روائية قليلة جدًا، قياسًا مع عمره الأدبى، ويقف عند روايته «وداعًا للسلاح» التى أعاد كتابتها ٣٩ مرة، ليؤكد أن رواية تراهن على الحضور والتأثير ينبغى أن تأخذ وقتها فى التشكل وأن تنضج على نار هادئة، وكان يسخر دائمًا من غزيرى الإنتاج ويعتبرهم أقل فنًا. قبل عشرين عامًا سافرت مع الفنان الكبير الراحل جميل شفيق فى رحلة طويلة إلى المغرب، تفرغ فيها «الطود» المحامى الشهير فى طنجة، وفتح لنا الأبواب المغلقة فى الدار البيضاء والرباط ومراكش وأصيلة والصويرة وأسفى والجديدة والمحمدية وشفشاون وبالطبع مدينته العظيمة طنجة التى تعرفت فيها على محمد شكرى وقضيت معه أوقاتًا طيبة مبهجة، وفى «سطاد الرباط» تعرفنا أيضًا على الكاتب الكبير إدريس الخورى الذى أخذنا إلى دهاليز المدينة لنستمتع بألحان محمد عبدالوهاب ومحمد عبدالمطلب وأم كلثوم بحناجر محبى الغناء المصرى من المغاربة، أخذنا إلى شلالات أوزود، وصعدنا لزيارة مولاى إبراهيم، كان للمثقف المغربى الكبير فضل تعرفنا على بهاء، وعلى إنتاجه الأدبى، وكان للطود فضل تعرفنا على معظم رموز الثقافة المغربية المعاصرة، فى هذه الرحلة لم نشعر بأننا ضيوف، كنا وسط أشخاص يحبون «ريحة» مصر، وكان إذا جاء إلى القاهرة ينتهى من مهامه التى جاء من أجلها، ليلحق بنا ليستمتع بليل القاهرة، كان متابعًا للشأن المصرى، منحازًا لأشواق المصريين، عارفًا قدرهم، مدافعًا عنهم وخصوصًا بعد ٣٠ يونيو.. ألف رحمة ونور على روحك يا صديقى.