رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

استدعاء آدم حنين

وقف الطفل صمويل هنرى أمام تمثال إخناتون فى المتحف المصرى سنة ١٩٣٧ مع تلاميذ مدرسته، لم يصدق أن هذا العمل من صنع إنسان، فقرر أن يمشى على خطاه، الطفل ینتمى لأسرة «أسیوطیة» تعیش فى باب الشعریة، تعمل فى صیاغة الفضيات، جاء بقطعة من الصلصال لیصنع شیئًا یشبه التمثال الذى خطفه وملك كیانه، تباهى به والده حین رآه، وراح یعرضه، مزهوًا، على أصدقائه، هذا الطفل الموهوب أصبح اسمه فیما بعد آدم حنین «٣١ مارس ١٩٢٩- ٢٢ مایو ٢٠٢٠» النحات المصرى العالمى، الذى أثبت للعالم أن الفنان المصرى الذى خلد تاریخ بلاده فى الماضى ما زال موجودًا، كان یشعر بأن تمثال «شیخ البلد» الموجود بالمتحف هو جده، وأن الفن الفرعونى حرره من وطأة الإحساس بالزمن، بمعناه المادى المحدود، وفتح عینیه على زمن آخر أرحب، هو زمن الفن، یقول: «هذه الهزة التى انتابتنى فى تلك السن، أعطتنى إحساسًا بأننى أقف على أرض صلبة، ومع تراكم الخبرات أصبح لدىّ مقیاس قوى، أقیس علیه رؤیتى للفن والحیاة، هذا المیزان هو الفن الفرعونى»، هذا الفن عصمه من تشوهات بصریة وفنیة، وجعلته مستقلًا عن المدارس الفنیة والتیارات، كالانطباعیة والتكعیبیة والسریالیة وما إلى ذلك، رغم استفادته منها جمیعًا، كان یرى أن تأثره بالفن المصرى القدیم سببه أن حركة الكتلة ساكنة فى داخلها، وعمل الفنان یكمن فى أن یجعلها تطفو على السطح، وهذا یتبدى من خلال وعى عمیق بعملیة المزج بین الثقل والخفة، بحیث یشكل كلاهما الآخر، ویفیض عنه بتلقائیة وعفویة، والدلیل أن نحت الأجداد وتماثیلهم إلى الآن يطفو فوق سطح المكان والزمان وقادر على إثارة الدهشة بداخلك فى كل مرة تراه، تخرج آدم حنین فى كلیة الفنون الجمیلة سنة ١٩٥٣، التحق بمرسم الفنون الجمیلة بالأقصر فى العام التالى وظل هناك عامین، وهو المرسم الذى أسسه الرسام السكندرى والدبلوماسى محمد ناجى سنة ١٩٤١ لتشجیع دراسة الفن المصرى القدیم، سافر سنة ١٩٥٧ إلى ألمانیا الغربیة لیدرس النحت لمدة أربعة فصول فى مرسم أنطونى هیلر، عمل فى مجلة صباح الخیر كرسام فى «صباح الخير» فترة قصيرة، التقى خلالها نخبة من الموهوبین الكبار على رأسهم الشاعر الكبیر صلاح جاهین، الذى بدأت علاقته به سنة ١٩٥٠ فى كلیة «فنون جمیلة»، قبل أن یتركها الأخیر لیعمل فى «روزالیوسف»، رسم له الرباعیات فى مجلة «صباح الخیر»، عاش فى النوبة أثناء منحته للتفرغ «١٩٦١- ١٩٦٩»، ثم سافر سنة ١٩٧١ إلى فرنسا وظل هناك لمدة ربع قرن، ممثلًا وسفیرًا للفن المصرى، وهناك اتجه إلى التجرید فى أعماله، تأثر آدم أیضًا بالتراث الشعبى والقبطى والإسلامى، وبالملاحم والسیر الشعبیة، واقترب من فنانین عالمیین كبار مثل قسطنطین برانكوزى وهنرى مور وأرتولد مارتینى وجیاكومتى وغیرهم ممن طوروا لغة فن النحت الحدیث، كان رسامًا مختلفًا أیضًا، وكان یقول إنه حین یتعب من النحت وتقل طاقته یتجه إلى الرسم لالتقاط الأنفاس، وشحن طاقته عاطفیًا وفنیًا، لیعود بعد ذلك إلى النحت من جدید، وكان یرى أن الرسم فن سریع وبسیط ولا یحتاج الوقت الذى يحتاجه النحت، لأن الكتلة فى الرسم صوریة فى علاقتها بالفراغ، لم یستخدم فى الرسم الألوان الزیتیة على القماش، ولكنه أعاد إحیاء تقنیات قدیمة، مثل استخدام أصباغ طبیعیة ممزوجة بالصمغ العربى، لیرسم بها على أوراق البردى، كان یعرف أن النحت فن مصرى، اختفى طوال الفترات الاستعماریة الكئیبة التى كبلت الخیال والوجدان، ولكنه عاد مع ظهور المثال العظیم محمود مختار، ومع الزخم الذى أطلقته ثورة ١٩١٩ فى النفوس، والرغبة فى استرداد مصر المعنى والمكانة، عاش من أجل هذا الحلم، وأسس سمبوزیوم أسوان لفن النحت، الذى أحدث نهضة عظیمة. أعمال الراحل العظیم تشهد على منزلته الرفیعة، من «حاملة القدور» الموجودة فى حدیقة النحت الدولیة بمدینة دالاس الأمریكیة، إلى مقتنیاته فى متحف وزارة التربیة والتعلیم ووزارة الثقافة ومتحف الفن الحدیث ومؤسسة «الأهرام»، سلم الفنان الكبیر ٤٠٠٠ عمل للمؤسسة التى تحمل اسمه، ووهبها أمواله وأعماله والأرض المقام علیها متحفه فى الحرانیة «الذى بناه على نفقته»، غیر ٧٦ عملًا وهبها لمكتبة الإسكندریة.. كنت محظوظًا بالتعرف إلیه منذ فترة مبكرة من عمرى بفضل أستاذى علاء الدیب، شقيق السيدة عفاف الديب زوجة آدم الراحلة، وكان إلى جوار قامته العالية كفنان، إنسانًا طيبًا خفيف الظل ينشر البهجة أينما حل، ويمتلك ابتسامة آسرة، الابتسامة التى تجعلك تستدعى من تحب إذا كنت مخنوقًا بسبب ما يدور حولك.