رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى القلب غزة

أحد المحاورين على شاشة قناة عربية راح يسأل ضيفه من فلسطين على الهاتف عن أحوال النساء والأطفال تحت القصف.. فرد الضيف بأن النساء تبيت ليلها تحت السماء العارية بحجابها تحسبًا للقصف فى أى لحظة.. ولم يكن فى حاجة لأن يضيف بأن الأطفال لا ينامون من الأصل.. انتبه مَن يتفرج بجوارى إلى مسألة الحجاب وتمتم بالدعاء.. كل ما شغله فى الأمر هو أنها ترتدى الحجاب.. لم يفكر فى ذعرها وخوفها.. لم يفكر فيمن فقدت وفيمن تستعد لأن تفقد.. لم يفكر فى رأسها الذى يغلى أسفل الحجاب ينتظر أن يستقر لثانية عساه يجد إجابة لذلك السؤال الذى لم يفارق لسان أمها العجوز.. إيه آخرة الترحال؟.. هو حتى لم ينتظر أن يعرف كيف يأكل أهل الدار ومن أين وكم يكفى طعامهم.. لم ينتظر أن يعرف ماذا عن الجرحى وهل تعمل المستشفيات.. أظن أنه من العبث أن يسأل أمثال جارى فى هذه اللحظة عن مدارس الأطفال وكتبهم.. هم لا يحتاجونها.. فقد تعلموا بما يكفى أن هذه الأرض هى حياتهم ومماتهم، وهذا يكفى لتعيش فلسطين. 

أمثال هذا الرجل هم المشغولون الآن بموقف لاعبنا محمد صلاح.. ولماذا صمت.. لماذا لم يخرج على التلفاز أو فى مباراته الأخيرة مرتديًا علم فلسطين.. ربما يفعل وربما لا.. ولكن هل ستتحرر فلسطين بمثل هذه الشعارات أو بمثل هذه المواقف؟

يعرف الفلسطينيون قبل غيرهم أن بلدهم محتل.. وأن عشرات الآلاف من الشهداء ذهبوا وما زالت دماؤهم ساخنة تسقى الزيتون فى أراضيها.. ويعرفون أن تمزقهم واختلافاتهم كانت سببًا أساسيًا فى تغول الصهاينة وتجبرهم.. المحتل جبان يهرب عند أول طلقة، لأنه يعرف أنها ليست أرضه، وأن الدار التى يسكنها غصبًا حيطانها لا ترحب به.. لكن من جعله يطمع ويحلم بالبقاء بل وتهجير أهل الدار ونفيهم بعيدًا هم أهل الدار أولًا.. تشرذم أهلنا فى فلسطين أولًا... وانقسام العرب وضعفهم ثانيًا.. وأكاذيب آل صهيون ومَن والاهم أخيرًا.. ربما نحن أمام فرصة تاريخية لإعادة المشهد.. إعادة الساعة وعقاربها.. ربما أرادوها فرصة لإنهاء قضية فلسطين إلى الأبد فإذا هى فرصة لإعادة قضيتها إلى الطاولة مجددًا.. فهل يسمح هذا العالم البغيض بذلك؟

لا شىء يحدث صدفة.. وفكرة الخلاص من أهل فلسطين وتشتيتهم فى بلاد الله، سواء كانت مصر أو الأردن أو غيرهما، ليست جديدة.. وكل الوثائق المسربة من اجتماعاتهم البغيضة شرقًا وغربًا تنتهى إلى ذلك الوهم.. نعم هو وهم حتى ونحن فى عز ضعفنا.. ليس لسبب إلا أن أهل فلسطين أصحاب حق.. ولا يعرف كيف يحصل على الحق إلا أصحابه. نحن معهم نعم.. لكن دون قوتهم واتحادهم ووعيهم بما يحاك لهم لن يحدث شىء... ولن يحصلوا على شىء. 

مات عبدالناصر.. وهو عائد من مباحثات مكثفة ومزعجة أتعبته وأنهكته لأيام.. هل تتذكرون أيلول الأسود؟.. راح الرجل الذى حارب قولًا وفعلًا من أجل فلسطين فيما هم يتوزعون الاتهامات والشكايا واللعنات.. وظل المصريون على حالهم يعرفون أنها أرض واحدة.. وأن عدونا واحد.. وجاء أكتوبر بعدها بثلاث سنوات فقط واستعادت مصر أرضها.. وكانت الفرصة وقتها مواتية لأن تعود قضية فلسطين إلى صدارة المشهد.. كنا فى حالة انتصار وكانوا يبكون جرحاهم.. العرب وحدتهم المعركة وكان يمكن أن نمضى إلى الأمام.. لكننا كالعادة ضيعنا عشرات الفرص لأن نبقى.. وعندما هنّا وتمزقت وحدتنا.. كان أن وجد العدو راحته فراح يقتطع من جسد فلسطين كل يوم مستوطنة جديدة. 

الآن نحن فى مفترق طرق.. منذ عشر سنوات ويزيد.. نحن فى مفترق طرق.. خرائط جديدة يجرى رسمها أمامنا على الشاشات.. خرجت الأفكار إلى العلن صارت واقعًا.. وصار العالم العربى فى أتعس حالاته.. وصارت شعوبنا ملتاعة تلهث خلف قوت يومها من ناحية وخلف شاشات الموبايل تبحث عن نصر وهمى بدعم محمد صلاح أو غيره.. فى هذه اللحظة هل نحن فى حاجة لأن يعرف العالم قضيتنا.. هل نحن فى حاجة إلى أن يقنعهم مو صلاح بها؟.. يا سادة هذا العالم لا يعرف سوى المصلحة.. والقوة هى معياره الأوحد الذى يقيس به خطوته المقبلة.. فهل نملك ذلك؟.. نعم.. لكن هل نملك الإرادة التى تجعلنا قادرين على إدارة هذه القوة فى مواجهة هذا الباطل الغاشم؟

فى بيتنا فى الصعيد.. وفى صندوق خشبى قديم كانوا يسمونه السحارة كانت توجد مجموعة من أكواب الزجاج البسيطة.. كانت والدتى، رحمها الله، تحتفط بها إلى وقت قريب.. لا تستعملها أبدًا... مجرد أكواب شاى.. تلمعها بقطعة قماش صوف من حين إلى آخر ثم تدفسها فى قعر السحارة.. وكلما انكسر كوب من عدة الشاى أتت بغيره، ولا تفكر أبدًا فى استعمال الأكواب المخزونة.. سألتها مرة عن سر هذه الأكواب وكنت طفلًا لا أفهم، فقالت: جاء بها خالك من غزة.. ولم أفهم وقتها.. لكننى حين كبرت أدركت أن قصة غزة مخزونة فى صدور كل الأمهات فى مصر.. وأن من أرادوا طمسها حتمًا فشلوا.. فلا النساء اللاتى ارتدين عقود الحزون الزرقاء على الذين فقدناهم وما زالت دماؤهم ساخنة هناك تجرى فى الرمل فنصنع منه أكواب الشربات.. لا هؤلاء النساء نسين.. ولا أطفالهن الذين صاروا رجالًا سينسون.. من يزايد على مواقف مصر لا يعرف مصر.. ومن ينتظر إعلان صلاح لا يعرف ماذا علمته أمه الريفية فى نجريج.. وربما لن يعرفوا ونحن لسنا فى حاجة إلى ذلك من الأصل. 

لن تنتهى القصة فى ساعات.. والنوايا ستتكشف واحدة تلو الأخرى.. بعض العالم الغربى بدأ يتراجع.. لسنا وحدنا.. لكننا مطالبون بأن نكون معًا.. وشاشاتنا ومدارسنا مطالبة بأن نعيد القصة من أولها فبيننا من تشوشت رأسه.. وله العذر، فما تم رشه فى الفضاء وفى الصحف والكتب من فيروسات مدفوعة ومقصودة كفيل بأن يزعزع الأدمغة... لكن القلوب تعرف.