رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"رحلة ميدانية فى عوالم ديكارت".. المفكر الفرنسى بعيون عربية

رحلة ميدانية في عوالم
رحلة ميدانية في عوالم ديكارت

السؤال حول تعثُر الحداثة في العالم العربي هو سؤال إشكالي وجوهري يُطل برأسه في الخطابات الفكرية كافة، ويفرض نفسه منذ بزوغ عصر النهضة ووصولًا إلى الألفية الثالثة، التي وإن أفرزت أسئلتها الجديدة في عالم صار إلى ما بعد الحداثة أقرب، فإنها لم تحسم بعد هذا السؤال القديم والمتجدد. 

من هنا، فإن كتابًا يحمل عنوان "رحلة ميدانية في عوالم ديكارت.. حول تعثر الحداثة عربيًا"، قد يعِد بمنظور جديد وشيّق في النظر إلى الإشكالية المتجددة، بسبب ما يشي به عنوانه من تناول جديد قوامه الانطلاق من أدب الرحلة نحو استشكال قضية فكرية، والبدء من مفهوم ديكارت للحداثة للوصول إلى أسباب تعثر المفهوم في النطاق العربي. 

غير أن الباحث المغربي محمد كزو، في كتابه الصادر عن "الآن ناشرون وموزعون"، لم يطرح قضية كتابه بالمزج بين الأشكال الثلاثة من الكتابة؛ الفلسفية والسيرية والرحلية، ولكنه آثر الركون إلى الأيسر فاصلًا بينهم بما أفقد المضمون تميزُه واختلافه المُنتظَر والمتوقع، ليصير الكتاب مجموعة من المقالات يغلب فيها المعروف على المجهول، وينتصر فيها التقرير على التحليل. 

رحلة إلى منزل ديكارت

بدأت فكرة الكتاب، حسبما يوضح الكاتب، حينما قام برحلة ميدانية إلى فرنسا، حيث يوجد بيت الفيلسوف البارز وكذلك الأماكن التي تحمل بعضًا من آثاره، فقرر أن يطرح كتابًا في أدب الرحلة التي منها ينطلق إلى منظور فكري وتأويلي لكتب الفيلسوف ديكارت ومتونها، بهدف إثارة السؤال عن ديكارت في العالم العربي، وأسباب تعثر وجوده عربيًا باعتباره رمزًا للحداثة. 

ومع أن الكتاب ينطلق من الرحلة، في عنوانه وغلافه ومقدمته، فإنها لا تحضر به إلا في الصور التي تأتي بنهاية الكتاب لبيت ديكارت والأماكن التي مرّ بها، وعلى استحياء عبر الفصل الأول الذي ينقل فيه الكاتب حديثه مع الموظفة المسئولة عن منزل ديكارت، وهو حوار منح فيه الكاتب الأولوية للاسترسال في ذكر معلومات عن ديكارت وحياته بدلًا من كشف ملامح المكان الذي منه انطلقت الرحلة.

سيرة الفيلسوف وأعماله

باستثناء ذلك، نأى الكتاب عن الرحلة واستفاض في سرد سيرة ديكارت وقواعد منهجه وأهميته مع آخرين مثل كوبرنيك وجاليليو في بلورة مفهوم الحداثة بالعالم الغربي، ودوره في إعادة هيبة الذات الإنسانية وبدايات تحركه نحو الاتجاه الحداثي في الفلسفة واعتماده قواعد جديدة أسهمت في تغيير مسار الفلسفة والعلوم، ومن ثم وضع أساس متين للحداثة والنسق المعرفي الجديد آنذاك. 

وفسّر الكاتب استدعاء ديكارت للاهوت في أعماله، والذي يظهر في إقراره لخلود النفس وفناء الجسد وحديثه عن أن الإيمان بالله ملهم اليقين والمعرفة، بأن الفيلسوف الفرنسي عاش مهادنًا للكنيسة طوال حياته بسبب ما شهده من مصير جاليليو وكذلك جيوردانو برونو الذي أُحرق حيًا أمام الملأ. 

استغرق الجانب الأكبر من الكتاب في تقديم كتب ديكارت وهي "كتاب العالم" أو "كتاب النور" الذي بدأ فيه التأسيس للابتعاد عن التفسيرات اللاهوتية المبهمة، وكتاب "مقال عن المنهج" الذي تطرق فيه إلى الأفكار العلمية الحديثة التي بدأها كوبرنيك وطورها جاليليو، وكتب "التأملات في الفلسفة الأولى"، و"مبادئ الفلسفة"، و"محاورة ديكارت" التي طرح بها منهجه الرياضي القائم على الشك والتحليل والتركيب والتحقق.

ديكارت بعيون عربية

تحدث الكاتب في هذا الفصل عن بدايات استقبال ديكارت في العالم العربي عبر الصحافة وتحديدًا مجلة "الهلال" في القرن التاسع عشر ثم ارتفاع وتيرة الاهتمام بمؤلفاته عبر ترجمتها والكتابة عنها، راصدًا أربعة نماذج من الكُتاب المصريين، الذين استقبلوا فكر ديكارت وعبّروا عنه في أعمالهم، وهم طه حسين، وعثمان أمين، ونجيب بلدي، ومحمود حمدي زقزوق.

رأى الكاتب أن النماذج الأربعة تعرفت على الفكر الديكارتي وأثره في الفكر الأوروبي، ودعت إلى الثورة في العالم العربي اعتمادًا على تطبيق الفكر الديكارتي في الواقع، ولكن استدعاءهم جاء من زواية التخصص الأكاديمي ما جعل الفكر منبتًا عن جذوره العلمية التي هي نقطة انطلاق الحداثة الغربيّة. 

وبيّن ذلك بقوله إن الاستدعاء من طرف طه حسين كان من أجْل مُسوِّغ أدبيّ تاريخيّ، فيما كان عند عثمان أمين من أجل مسوِّغ ثوريّ نهضويّ، أما نجيب بلدي فقد استدعى ديكارت لدراسة المنهج الدّيكارتي، فيما أراد محمود حمدي زقزوق من استدعاء ديكارت الدّفاع عن فكر الغزالي أكثر من الحديث عن ديكارت نفسه، ذلك الاستدعاء الجزئي هو ما أدى برأي الكاتب إلى فشل التّجربة الدّيكارتيّة ﰲ العالَم العربي. 

ركز الكاتب في المحور الأهم بالكتاب؛ ديكارت بعيون عربية، الذي من المفترض أن يجيب على السؤال المركزي عن تعثر الحداثة عربيًا، على توضيح أشكال استقبال الفكر الديكارتي في الثقافة العربية وتحديدًا المصرية، ولم يسهب في تقديم طرح تحليلي لأسباب تعثر الحداثة عربيًا انطلاقًا من دراسته لأفكار ديكارت أو للواقع العربي وإنما اكتفى بقوله: "أخذنا نتائج الحداثة دون الأخذ بأسبابها، والمسألة معقدة أكثر مما نتصور في بيئة غير بيئتنا ومنطلقات غير منطلقاتنا".