رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يحيى خليل.. 80 سنة من الموسيقى الخالصة

بعد جولة طالت فى أرجاء المعمورة، يعود أسطورة الجاز المصرى الموسيقار يحيى خليل لاستئناف حفلاته فى مسرحيه المفضلين دونًا عن أى مكان آخر على وجه الأرض، المسرح الصغير بدار أوبرا القاهرة، ومسرح سيد درويش بأوبرا الإسكندرية.. وهما المسرحان اللذان ارتبطا باسم يحيى خليل وفرقته وحفلاته طوال سنوات، رغم طموحه الدائم للتجوال فى محافظات مصر، وإتمام رسالته التى بدأها قبل ٦٦ عامًا، عندما أسس أول فرقة موسيقية خاصة هى فرقة «رباعى القاهرة لموسيقى الجاز» عام ١٩٥٧، وهو فى الرابعة عشرة من عمره، وهى الفرقة التى ألهمت العديد من الفرق بعدها، فتكونت على غرارها، وحاولت السير على نهجها، لكنها لم تصل إلى ما اختاره يحيى لفرقته من حضور واستمرارية لا تقبل التوقفات العابرة، ولا التغيير الكامل، فيما تحافظ على التجدد الدائم لعناصرها، وموسيقاها، وإيقاعاتها، ما يضمن لها الاستمرار والتواصل رغم الانقلابات الحادة فى الذائقة الموسيقية محليًا وعالميًا مع مرور الزمن.

ما زال يحيى خليل، الذى يكمل عامه الثمانين فى الأول من ديسمبر المقبل، يحلم بأن تصل موسيقى الجاز بما تحمله من رسائل نبيلة يؤمن بها، وبجدواها، إلى القرى الصغيرة، والنجوع البعيدة، إلى مدن الدلتا والصعيد، إلى مطروح وسيوة وسيناء، لا توقفه إمكانات، ولا تحد من طموحه «بيروقراطية» ولا صعوبات، وكما طاف بفرقته أركان الأرض، وقدم حفلاته فى ألمانيا وإيطاليا واليونان، فى روسيا وجنوب إفريقيا والولايات المتحدة الأمريكية، وغيرها الكثير من مدن العالم، لا يتوقف عن التقدم بمشروعه الحلم، والحديث عنه، وعن مردوداته الثقافية، والمعرفية، والاجتماعية.

قدم يحيى حفلاته فى أكثر من عشرين دولة، ومائتى مدينة، وشارك فى آلاف الحفلات والمهرجانات الدولية، لكنه يظل مثل أسماك النيل، لا يطيق البعد عن مياهه الإقليمية العذبة، ولا يتوقف عن التفكير فى السير بموسيقاه بطول النهر العظيم، من أسوان إلى الإسكندرية ودمياط ورشيد، والالتصاق بجمهوره الأحب فى مصر والعالم العربى، لا يدخر فى سبيل ذلك جهدًا ولا مالًا.

وكما لا تعرف موسيقى الجاز الحدود، ولا تعترف بالجنسيات، ولا الفواصل العنصرية بين البشر، كلغة عالمية تنصهر فيها كل مكونات الطبيعة الحية، يحرص يحيى خليل على إمداد فرقته بكل العناصر التى تحتاجها من موسيقيين ومطربين وعازفين من كل دول العالم، ويحرص على تطويع الآلات الغربية لعزف موسيقانا الشرقية بما فيها من تطريب، وعُرب، ومساحات لم تكن تستطيع التعبير عنها، أو الوصول إليها، ما فتح الباب أمام الجمهور المصرى والعربى للاستمتاع بهذا الفن الذى لم يكن معروفًا فى مصر بالصورة الكافية، بل فتح الباب أمام كثير من الموسيقيين والمطربين المصريين والعرب، وربما لا يعرف الكثيرون أن اثنين من أمهر العازفين فى تاريخ الموسيقى العربية الحديثة، هما من رفاق رحلة يحيى خليل فى فرقته التى كونها بعد عودته من رحلة دراسية وعملية طويلة بالولايات المتحدة الأمريكية عام ١٩٧٩، وهما النجمان عمر خورشيد وعزت أبوعوف، وهى الفرقة التى قال عنها النقاد وقتها إنها تجمع أفضل خليط من المواهب الموسيقية.

وفى الموسم الجديد لحفلاته الذى يبدأ فى الخامس من أكتوبر المقبل، يحتفل يحيى خليل مع جمهوره بمجموعة من كبار الموسيقى العربية، ويقدم مع فرقته نخبة من أعمال بليغ حمدى ومحمد عبدالوهاب وكمال الطويل، إلى جانب مؤلفاته الخاصة، وربما كان هذا هو السبب فى أنه بالنسبة لعشاق ومحبى موسيقى الجاز، وأنا منهم، ليس مجرد عازف متفرد يستطيع أن يخلعك من كرسيك ويطير بك عاليًا دون أن يرف له جفن، ولا مجرد موزع موسيقى يطوع ما يروق له من جمل موسيقية لأسلوبه الأثير، ولا مؤلف موسيقى يحب التحليق فى سماء الجاز التى لا تعترف بحدود ولا فواصل، ولا يحدها «ربع تون»، ولا مايسترو ماهر تلتقط أذناه كل شاردة وواردة ويضعها فى مكانها الأصح، وتوقيتها السليم.. هو كل ذلك وأكثر، هو حالة من الموسيقى الخالصة، والبهجة المفرطة، والعقل النشط الذى لا يتوقف عن السعى والتفكير ومباغتة محبيه بما لا يتوقعون، وربما كان ذلك هو السر فى حالة الإقبال غير الطبيعى لجمهور الشباب على حفلاته كاملة العدد دائمًا.

شهران يفصلاننا عن يوم ميلاده، وعيده الثمانين.. لكننى لن أنتظر، وسوف أحتفل به، وبمحبته للحياة، وللموسيقى، ولمصر التى لا تفارق قلبه ولسانه.

عزيزى يحيى.. دمت حيًا محلّقًا وصانعًا للبهجة والأحلام.. وسنة حلوة يا «خليل».