رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

100 عام من هيكل.. المناطق الرمادية فى حياة الأستاذ

محمد حسنين هيكل
محمد حسنين هيكل

فى الرواية الطويلة التى كتبها الأستاذ محمد حسنين هيكل، الذى نحتفل بمئويته اليوم، لحياته يبدو أمامك واضحًا وشفافًا تمامًا، يقول كل شىء، لكن عندما تفتش تحت جلد الأستاذ، ستكتشف أنه لم يقل الكثير، رحل تاركًا خلفه كثيرًا من المناطق الرمادية التى لا يمكن لأحد أن يفصل فيها إلا هو. 

يمكن أن تضيف إلى شخصية الأستاذ هيكل ما تشاء من الصفات، لكن تظل الصفة الأهم فى حياته هى «الحرص».. كان حريصًا جدًا، فالرجل الذى لم يكتف ببناء مجده فقط، بل قرر أن يهدم مجد الآخرين فى بلاط صاحبة الجلالة، وضع نفسه فى قالب صارم جدًا.. وهو القالب الذى جعله حتى لو أخطأ لا يستطيع أحد أن يمسك عليه شيئًا حتى لو كان عابرًا. 

فى عام ١٩٤٩ ذهب أحد عشر صحفيًا من ألمع محررى «أخبار اليوم» إلى على أمين وقالوا له: إما نحن أو هيكل. 

فوجئ على أمين بالإنذار، كان يعلم أنهم جادون لأن جريدة «المصرى» كانت تتفاوض معهم للانتقال إليها، وسألهم على أمين: لماذا؟ 

فقال أولهم: هيكل غامض. 

وقال ثان: هيكل خطير. 

وقال ثالث: هيكل أُلعبان. 

وهكذا إلى أن جاء الدور على عبدالرحمن الشرقاوى فقال إنه ليس عنده شىء يأخذه على هيكل، ولكنه لا يستطيع أن يتجاهل رأى كل هؤلاء فيه. 

ضحك على أمين وقال لهم: هذه شتائم وليست اتهامات، وأنا أطلب ذكر واقعة محددة تثبت أنه خطير أو أنه أُلعبان، فقال أحدهم: إن هيكل حذر أكثر من اللازم ولا يعطى لأحد فرصة ليمسك عليه دليلًا.

هل يمكن أن نعتبر هذا أحد مفاتيح شخصية هيكل؟ 

إنه قد يكون المفتاح الأكبر «لا يعطى أحدًا فرصة ليمسك عليه دليلًا». 

ما قاله هذا الصحفى، الذى طمس التاريخ اسمه، قد يكون صحيحًا إلى درجة كبيرة، لكنه فى الغالب لم يعش حتى يرى ما الذى فعله هيكل بمنطقه ووثائقه، إنه لم يمنح أحدًا فرصة ليمسك عليه دليلًا، بل صادر الأدلة كلها، وجعل منها دليل إدانة لكل من خالفوه أو أزعجوه أو تطاولوا عليه ولو بكلمة عابرة. 

فى حياة هيكل مناطق غامضة، وإذا لم تكن الكلمة دقيقة بالنسبة لك، يمكننا أن نتفق على أنها رمادية، نملك أطرافًا من المعلومات عنها، لكن لا يوجد مصدر واحد يمكن أن يفض غموضها أو رماديتها، لم يتحدث عنها الأستاذ، ولم يسأله أحد من مريديه عنها.. ربما لأنهم كانوا يعرفون أنه لا يريد أن يتحدث.

المنطقة الأكثر رمادية فى حياة هيكل كانت تلك التى باشر خلالها عمله فى مجلة «روزاليوسف». 

من تراثنا الصحفى الشفوى أن إحسان عبدالقدوس قال «إن هيكل دائمًا كان يبحث عن (الرأس الكبير) فى أى مكان ليسيطر عليه، حتى يسيطر بعد ذلك على كل شىء، فعلها عندما دخل (روزاليوسف)، فسيطر على رأس أمى، وفعلها بعد ذلك عندما سيطر على رأس عبدالناصر». 

«سيطر على رأس أمى».. لا بد أن لدينا هنا قصة، ما الذى فعله هيكل فى «روزاليوسف» على وجه التحديد؟ 

على كثرة ما قاله هيكل عن عمله فى الصحافة إلا أنه لم يرو شيئًا عن عمله فى «روزاليوسف». 

سألت صندوقه الأسود خالد عبدالهادى. 

هامش

قبل أن تقرأ السؤال والإجابة... من المهم أن تعرف أولًا من هو خالد عبدالهادى. 

بعد وفاة هيكل فى فبراير ٢٠١٦ بشهور قليلة وفى مطلع العام ٢٠١٧ صدر كتاب «هيكل.. لمحات إنسانية» لخالد عبدالهادى، الذى لم يكن معروفًا إلا فى دوائر ضيقة تحيط بهيكل، وكان ينظر هؤلاء إليه على أنه الصندوق الأسود للأستاذ. 

فى الكتاب لا تستطيع أن تمسك بمفاتيح العلاقة بينهما، ربما يكون إخلاصه لهيكل وحرصه على سيرته جعلاه يتوارى خلفه، فلا يهتم بنفسه. 

فى فبراير ٢٠١٩ وفى الذكرى الثالثة لوفاة هيكل، صدر عدد خاص من مجلة «الهلال» كتب فيه خالد عبدالهادى مقالًا مطولًا عن هيكل، وقبل أن يدخل إليه عرّف القراء به. 

يقول خالد عبدالهادى: «كنت ما زلت شابًا أدرس فى مدينة الكويت، التى عشت فيها فترة من بداية حياتى، عندما وقعت عيناى على كتب ومقالات الأستاذ هيكل، يومها ترسخ فى ذهنى أننى أمام فيلسوف وليس كاتبًا مؤرخًا وليس صحفيًا مفكرًا وليس محللًا، ومنذ أن ترسخ هذ التصور فى عقلى بدأت رحلة البحث عنه حرفيًا وشخصيًا. 

وبالفعل جمعت كل كتبه وقرأتها بنهم وعشق لا يوصف، ثم الخطوة التالية أجريت مكالمة لمكتبه بالقاهرة، وأنا ما زلت شابًا وقتها، طالبًا الجلوس إليه، وتعددت محاولاتى حتى حدد مكتبه لى موعدًا بالفعل. 

بعد هذا اللقاء الأول، تعددت اللقاءات والاتصالات الهاتفية بيننا، وأصبحت بعدها من عشاق ومحبى هذا الكاتب الفذ الذى تعلمت من حرفته، واستوعبت السياسة من فكره، وأحببت الشعر من حبه للشعراء، وعشقت القصة والرواية من حبه لهما، وامتدت هذه المعرفة سنوات متعددة حتى جاء موعده مع القدر ورحل إلى خالقه». 

أرسلت له رسالة قصيرة: هل تحدث الأستاذ هيكل عن فترة عمله فى «روزاليوسف» فى أى مصدر متاح لديك؟ 

رد علىّ متفضلًا: هو عمل لفترة قصيرة فى روزاليوسف، ذكرها بطريقة مبتسرة فى كتابه «بين الصحافة والسياسة» صفحة ٢٨. 

فى يوليو ١٩٤٣ عمل فى «روزاليوسف» سكرتير تحرير، وأول مقال له بالمجلة كان يوم الخميس ١٩ أغسطس ١٩٤٣ بعنوان «كنت أتمنى أن أكون معهم». 

وتناول أيضا عادل حمودة فترة عمل الأستاذ هيكل بـ«روزاليوسف» فى كتابه «هيكل.. الحياة الحرب الحب» صفحة ١٢٣. 

كل ما كتبه الأستاذ هيكل فى «روزاليوسف» لم يتجاوز ١٠ مقالات، آخرها كان عبارة عن حوار مع إسماعيل صدقى باشا، ونشر يوم الخميس ٣٠ نوفمبر ١٩٤٤، ورغم أنه تعرَّض فى حلقات فى قناة الجزيرة لبداية عمله فى الصحافة فى «الإجيبشيان جازيت» إلى «آخر ساعة» إلا أنه أغفل سنة «روزاليوسف». 

ختم خالد عبدالهادى رسالته إلىّ بعلامتى سؤال.. وتعجب: لعلى أجبت؟! 

أجابنى خالد عبدالهادى بالفعل على سؤالى، لكنه لم يتمكن بما قاله أن يبدد غموض إغفال هيكل لسنة «روزاليوسف». 

هنا يمكن أن نبقى سويًا لبعض الوقت. 

ولنبدأ من بعض ما ذكره خالد عبدالهادى. 

ذكر هيكل قصته مع «روزاليوسف» بالفعل فى كتابه «بين الصحافة والسياسة» فى صفحة ٢٦ وليس فى صفحة ٢٨، وجاء هذا الذكر فى الهامش وليس فى المتن. 

يمكننا أن نقرأ معًا ما أثبته هيكل فى هامش الصفحة ٢٦، يقول: لم أكن غريبًا عن أجواء الصحافة العربية، فقد كنا فى تلك الأيام نذهب مع الأستاذ «فيليب حنين» رئيس قسم الشئون المحلية فى الإجيبشيان جازيت للغداء فى مطعم «البريزيانا» القريب من الجريدة، وكانت السيدة روز اليوسف، الفنانة والصحفية الكبيرة، تتردد على هذا المطعم، وقدمنا إليها الأستاذ فيليب حنين، ثم لقيناها أكثر من مرة، وكانت هذه السيدة ذات الشخصية القوية كريمة فى تشجيعها لصحفيين مبتدئين، ودعتنا إلى مائدتها مرات، ثم دعتنا إلى مجلتها، وهناك كان لقائى الأول مع الصحافة العربية. 

ما حاول أن يخفيه هيكل عن عمله فى «روزاليوسف»، فصّله عادل حمودة فى كتابه «هيكل.. الحياة الحرب الحب». 

تابعه وهو يبدأ الحكاية من حيث انتهى هامش هيكل. 

يقول: استجاب هيكل لدعوة السيدة روز اليوسف، وكان ذلك فى عام ١٩٤٤، ولكنه على ما يبدو لم يبق فيها طويلًا ولم يكتب فيها كثيرًا، لقد كتب عن بنت الجيران التى لم ينسها، وعرض نتائج بحث ميدانى عن المجلات المصرية اشترك فيها هو وبعض زملائه فى مدرسة التجارة تحت إشراف أستاذه السيد أبوالنجا. 

يقول السيد أبوالنجا، فى مذكراته، إن هذا البحث كان أول بحث ميدانى من نوعه فى الشرق الأوسط، وكان أجر المشترك فيه ٣ جنيهات عن ٦ شهور من العمل المستمر.

عندما أظهر البحث الميدانى تفوق «روزاليوسف» نشر هيكل نتائجه على صفحاتها بعد أن أصبح محررًا فيها. 

يستكمل عادل حكايته، يقول: أبرز ما يحتفظ به أرشيف «روزاليوسف» السياسى لهيكل مقالين عن الملك فاروق، الأول فى العدد ٨١٨ الصادر يوم الخميس ١٧ فبراير ١٩٤٤ بعنوان «إنه الفاروق»، والثانى فى العدد ٨٣٠ يوم الخميس ١١ مايو عام ١٩٤٤ بعنوان «فى يوم عيدك يا مولاى»، وفى المقالين نجد هيكل حريصًا على الكتابة بأسلوب أدبى مميز، والواضح أن الأسلوب كان يغلب على الحدث والخبر فى المقال الأول، وهو ما تلافاه هيكل فيما بعد. 

ويختم عادل حمودة ما أمسك به من تاريخ هيكل الذى حاول أن يخفيه، فيما يبدو عامدًا متعمدًا، بأن هيكل لم يبق طويلًا فى «روزاليوسف»، يقول: إن صدامًا ما خفيًا وقع بينه وبين إحسان عبدالقدوس. 

وينقل عادل حمودة ما ذكره موسى صبرى فى كتابه «٥٠ عامًا فى قطار الصحافة» على لسان إحسان عبدالقدوس الذى قال: إن هيكل يستولى على الرأس الكبير فى أى مكان، استولى على عقل والدتى، ثم عقل محمد التابعى، ثم عقل وقلب على أمين، ثم عقل جمال عبدالناصر. 

ويعلق عادل على ذلك بقوله: لم يقل إحسان عبدالقدوس كيف كان هذا الاستيلاء، ولا ما الذى أزعجه فيه، خاصة أنه سبق هيكل فى «روزاليوسف» بنحو ٧ سنوات، كما أنه كان أشد بريقًا وشهرة. 

عدت إلى أرشيف هيكل الكامل فى «روزاليوسف»، ولم أركن إلى المقالين اللذين ركز عليهما عادل حمودة ويتعلقان بالملك فاروق، خاصة أنه علق عليهما بقوله: «وعندما نقرأ المقالين لا يجوز أن نحاسب صاحبهما بأثر رجعى».. وهو تعليق يحمل بعضًا من الإدانة بالطبع. 

فعليًا امتد عمل محمد حسنين هيكل فى «روزاليوسف» من ١٩ أغسطس ١٩٤٣، وكان أول مقال كتبه هو «كنت أتمنى أن أكون معهم»، حتى ٣٠ نوفمبر ١٩٤٤ عندما كتب حواره مع إسماعيل صدقى، وكان عنوانه «الموقف الحالى يبرر الشدة الحاسمة.. حديث مع إسماعيل صدقى». 

وبينهما نشر ثمانية مقالات هى: رجل الدولار فى ٤ نوفمبر ١٩٤٣، وليس لأنه الملك فى ١٦ ديسمبر ١٩٤٣، والمرأة فى السياسة فى ٦ يناير ١٩٤٤، وإنه الفاروق فى ١٧ فبراير ١٩٤٤، وأحاديث تهمك فى ٢٠ أبريل ١٩٤٤، وفى يوم عيدك يا مولاى فى ١١ مايو ١٩٤٤، والغرام الأول فى ٢٩ يونيو ١٩٤٤، ومصر والصين... حديث مع الوزير الصينى المفوض فى ٥ أكتوبر ١٩٤٤. 

لم يكن هيكل يكتب بشكل منتظم إذن فى «روزاليوسف»، عشرة مقالات فى ستة عشر شهرًا قضاها فى المجلة، وهو معدل إنتاج هزيل جدًا، يوحى من بين ما يوحى به أن هيكل لم يكن مرحبًا به فى المجلة، ولا أحد يدرى ما الذى حدث هناك على وجه التحديد جعل هيكل يمر مرور الكرام على تجربته فى «روزاليوسف»، وهو ما يجعل الأمر من بين ملامح الغموض فى حياته المهنية. 

فى العام ١٩٦٣ فقد هيكل منصبه فى جريدة الأهرام لمدة ١٣ يومًا. 

ظل ملك الأهرام المتوج على عرشها بعيدًا عن كرسيه، لم يدخل المؤسسة ولم يكتب حرفًا واحدًا فيها، وكان هذا فيما يبدو على خلفية الصراع بين عبدالناصر وعبدالحكيم عامر بعد انفصال سوريا. 

وقتها استطاع رجال عبدالحكيم عامر السيطرة على المواقع الحساسة بالدولة وإزاحة رجال عبدالناصر منها. 

طالت هذه المذبحة محمد حسنين هيكل، وكانت الحجة «أنه ضد الحل الاشتراكى».

التقط رجال عبدالحكيم عامر فى أحد مقالات هيكل هذه العبارة: إن الاشتراكية يجب ألا تكون شماعة تعلق عليها مشاكل النظام، وإن التطبيق الاشتراكى يجب أن يمهد له بجهاز إدارى كفء وفعّال، لأنه إذا خاب أو انهار جعل من مصر أمثولة فى المنطقة بدلًا من أن يجعلها مثلًا أعلى. 

استوعب عبدالناصر ما جرى، حتى استطاع أن يعيد هيكل إلى مكتبه مرة أخرى.

لم يقل لنا هيكل شيئًا عن هذه الأزمة، لم يقترب منها، ولم يعلق عليها عندما نُشرت، ولم يسأله أحد من محاوريه، رغم أن ما جرى كان حلقة مهمة فى حلقات صراع القوى على أرضية السياسة والصحافة فى مصر. 

الأمر نفسه تكرر مع محاولة اغتيال هيكل. 

جرت هذه المحاولة فى نهايات العام ١٩٦٨. 

تحدث عنها هيكل بشكل عابر لا يتناسب أبدًا مع استهداف حياته. 

قال عنها: قلق عبدالناصر لحادثة إطلاق رصاصتين علىّ وأنا نازل من مبنى الأهرام القديم فى شارع مظلوم، وأنا رفضت إبلاغ النيابة وتقديم شكوى، وبعدما عرف عبدالناصر التفاصيل سألنى إن كنت أتهم أحدًا، واستغرب ردى حيث قلت إننى لا أتهم أحدًا، وأنا أرى أن ما حدث لى ولزملائى فى الأهرام، كان ناتجًا عن اصطدامنا مرات عدة ببعض أجهزة السلطة. 

إن معظم الكتاب والصحفيين الذين اُعتقلوا أيام جمال عبدالناصر كانوا فى الأهرام، لطفى الخولى اعتقل، وجمال العطيفى اعتقل، وأحمد نافع ويوسف صباغ وحمدى فؤاد قبض عليهم، وسكرتيرتى نوال المحلاوى قبضوا عليها. 

هذه الاعتقالات، بالإضافة إلى حادثة إطلاق رصاصتين علىّ، كانت ناتجة عن اصطدامنا مرات عدة بأجهزة السلطة، لكن عبدالناصر كان يأخذ فى الاعتبار الخط الذى نسير عليه فى الأهرام، وكنت أعتبر ان الأهرام يجب أن يكون لها دور طليعى، وكنا نمارسه على أساس أننا ملتزمون بالميثاق من دون أن نفقد الحرية فى الكتابة عن تطبيق الميثاق، وكنت أرى أنه إذا استطاعت الأهرام أن تكون طرفًا فى الحوار فإنها بذلك تؤدى دورًا عظيمًا، وأعتقد أننا نجحنا فى أن نجعل من الأهرام طرفًا أساسيًا فى الحوار رغم أن ذلك تسبب لنا فى مشاكل وإشكالات، ولم نمارس هذا الدور بحماية من جمال عبدالناصر، إنما اعتقادٌ منّا أن عبدالناصر يثق فى الأهرام ويرى أننا نعمل من داخل التجربة وننتقد من واقع الالتزام. 

كما ترون يعبُر هيكل على محاولة اغتياله، ليتحدث عن الأهرام وعن دوره فيها، للدرجة التى تجعلك لا تهتم بمحاولة قتله، رغم أنها الأكثر إثارة واستفزازًا أيضًا. 

لم تكن المحاولة التى كان عبدالناصر يعرف مَن يقف وراءها، كما يعرف هيكل أيضًا، بسبب ما قاله كاتبنا، فقد جرت بعد مقال كتبه قال فيه إنه إذا لم يكن النظام قادرًا على أن يغير فلا بد أن يتغير، ويبدو أن هناك من غضب لأنه فهم أنه المقصود.. فحاول تخويف هيكل لا أكثر ولا أقل. 

ولأنه كان هناك من كانوا يعرفون ماذا فعلوا، ولماذا كانوا يريدون أن يفعلوا به ما خططوا له، فقد تجاهل ما جرى ورفض فتح تحقيق.. لتدخل الحادثة إلى المنطقة الرمادية الكبيرة التى تشكل مساحة لا يستهان بها فى حياة الكاتب الكبير. 

لقد ظل هيكل حتى نهاية حياته يبحث عن أسباب لكراهية قطاع كبير من الصحفيين له، ستجده هو يتحدث عن ذلك، مدونًا أسبابًا ومسجلًا لتبريرات، لكنه فى الغالب لم يكن موضوعيًا مع نفسه ولا معنا، عندما تحدث. 

فى سجل هيكل مثلًا أنه وفى يوم ١٣ مايو ١٩٧١ انتشرت شائعة عن استقالته من الأهرام، فسهر كبار محررى الجمهورية جميعًا لإعداد صفحتين كاملتين يشيعونه فيهما بأقلام الشامتين، وفى آخر الليل صدر نفى عاجل من هيكل لخبر الاستقالة بعد مقابلة عاجلة بينه وبين السادات فتأجل النشر. 

تخيلوا أن صحفيين يستعدون باحتفال مهيب يودعون به هيكل شامتين فيه لمجرد أن وصلتهم شائعة عن رحيله عن الأهرام، فهل يمكن أن يكون كل هؤلاء مغرضين، مؤكد أن بعضهم كانت لديه أسباب موضوعية للكراهية، لكن هيكل كعادته طمس الأمر كله، فلم تعد له ملامح تذكر.

لم يكن الأستاذ هيكل يخدم الحقيقة فى أى وقت من الأوقات، كان يخدم مملكته فقط، ولذلك فقد كان يجيب عما يريد من أسئلة توجه إليه، ويصمت عندما يقرر أن يصمت. 

سأعود بكم إلى العام ١٩٧٦، تحديدًا إلى ٢١ فبراير من هذا العام، جريدة «القبس» الكويتية تنشر حوارًا مطولًا مع الأستاذ أجراه السيد الشوربجى. لنقرأ معًا مقدمة الحوار، الذى أجراه محرره بعد شائعة انطلقت فى القاهرة ووصلت إلى كل العواصم العربية عن اعتقال هيكل. 

قال هيكل: حسنًا لقد تأكدت الآن أن الخبر مدسوس ولا أساس له من الصحة. 

وقلت له: نعم تأكدت، لكننى لا أريد أن أكتفى بهذا، هناك أسئلة كثيرة حول موقفك وأقاويل عديدة تتردد عنك وحكايات وروايات، لماذا لا ننتهزها فرصة كى تضع النقاط فوق الحروف، ونوضح الحقيقة حول ما يقال ويشاع عنك فى كل مكان، ثم نسمع رأيك فى كثير من أمورنا الحاضرة. 

أجاب: حسنًا.. سأتحدث معك فى كل شىء، عندما نتقابل سنقول كل شىء. 

عندما حان موعد اللقاء الثانى بادرنى هيكل قائلًا: أرنى أسئلتك أولًا، قرأها ثم شطب على واحد منها وهو يقول: هذا السؤال لن أجيب عليه. 

كان سؤالى الذى شطبه هو: ما هو رأيك فى عودة الأستاذين على ومصطفى أمين لميدان العمل الصحفى وفى الخط الذى ينتهجانه الآن فى صحف أخبار اليوم؟ 

وسؤال آخر شطب عليه بقلمه الأسود: قرأنا أن هناك من يتاجر بك ويبيع مقالاتك وكتبك فى دول البترول، وإنك تتقاضى ستمائة دينار عن المقال الواحد، ما هو ردك على هذا الكلام؟ 

قلت له: معذرة لهذا السؤال، ولكنى أريد وضع كل ما يقال أمامك، فقد كتب ونشر أنك تقاضيت نصف مليون جنيه إسترلينى عن كتابك الأخير «الطريق إلى رمضان». 

قال: لو افترضنا أن هذا صحيح، فما هو العيب وما هو الخطأ الجسيم الذى ارتكبته، حسنا سوف أريك شيئًا. 

أخذنى الأستاذ هيكل من يدى وقادنى إلى أحد أرفف مكتبته، حيث كانت هناك مجموعة من الكتب بأحجام مختلفة متراصة بنظام، وبدأ يطلعنى عليها واحدًا واحدًا: هذه هى بعض الطبعات التى صدرت عن كتابى المذكور، هذه هى الطبعة الإنجليزية، وهذه هى الطبعة الفرنسية، النرويجية، اليابانية، الألمانية، الهولندية، السويدية، التركية، الإيطالية، الأمريكية، وهذه هى طبعة إنجليزية شعبية، وتلك طبعة فرنسية شعبية.

حوالى سبع عشرة طبعة أطلعنى عليها، وقال: إن الكتاب ترجم إلى ٢٢ لغة عالمية، وطبع وصدر بكل هذه اللغات، فلو فرضنا أن دار النشر التى اشترته منى دفعت لى نصف مليون جنيه إسترلينى عنه، هل يكون هذا كثيرًا، ومع ذلك فالحقيقة بعيدة كثيرًا عن هذا الرقم. 

فى حياة الأستاذ هيكل كذلك واقعة مهمة جدًا، لم يشر إليها أو يتحدث عنها مع أحد. 

لقد وجد هيكل نفسه ممنوعًا من الكتابة، أو لنكن أكثر دقة من النشر فى جريدة الوفد، وقد تسأل عن الذى جاء بهيكل إلى الوفد وهى الجريدة التى لا تميل إلى عبدالناصر وكل ما يرتبط به؟ 

الإجابة وجدتها فى مقال نشره الكاتب عباس الطرابيلى فى مجلة الهلال عدد فبراير ٢٠١٩، وكان عددًا خاصًا صدر فى ذكرى رحيل هيكل الثالثة. 

يقول عباس الطرابيلى: أغلب الظن أن زميلى ودفعتى بقسم الصحافة الراحل العظيم جمال بدوى، وكان من أصحاب الرأى المستنير، كان يهدف إلى جذب قطاعات تهوى وتعشق مقالات هيكل إلى الوفد، فاقترح عليه أن يكتب مقالًا فى الوفد دون أن يحسب رد فعل الباشا فؤاد سراج الدين رئيس الوفد وزعيمه. 

كان جمال بدوى ذكيًا وموفقًا فى خطوته هذه، إذ استطاع أن يقنع فؤاد باشا بالموافقة على هذه الفكرة دون أن يعرضها على قيادات الهيئة العليا للوفد وكبار شخصياته. 

لكن حدث أن سافر جمال بدوى مرافقًا للرئيس حسنى مبارك فى زيارته للصين، ضمن رؤساء تحرير الصحف المصرية، وكلفنى بمتابعة الأمر وتسلم المقال من الأستاذ هيكل ونشره فى جريدة الوفد، وتسلمت مقال الأستاذ هيكل وقمت بإعداده للنشر بصفتى مديرًا لتحرير الوفد. 

فجأة اتصل بى فؤاد باشا وطلب منى إيقاف نشر المقال والاتصال بالأستاذ هيكل للاعتذار لسيادته عن عدم نشر المقال، وشرح لى الباشا أسباب التراجع عن النشر.

قال لى فؤاد باشا إن كبار الوفديين اعترضوا ورفضوا بشدة أن تصبح جريدة الوفد مكانًا لنشر أفكار ومقالات الأستاذ هيكل. 

وتساءل كبار الوفديين: هل نسينا كل هذا العداء من الأستاذ هيكل ضد الوفد ورجالاته وأفكاره للدرجة التى تصبح فيها صفحات جريدة الوفد منبرًا للأستاذ هيكل. 

استجاب الباشا سراج الدين لوجهة نظر قيادات الوفد ومفكريه ومنهم أحمد أبوالفتح، رئيس تحرير المصرى القديم لسان حال حزب الوفد، وأيضا إحسان عبدالقدوس الذى كان يكتب مقالًا أسبوعيًا على صفحة كاملة فى جريدة الوفد، وأيضًا مصطفى أمين صاحب دار أخبار اليوم. 

لم تكن قيادات الوفد وحدها التى اعترضت على أن يكتب هيكل فى الوفد، بل كانت كل قيادات ولجان الوفد فى المحافظات، وبالذات فى بورسعيد والإسكندرية والغربية وأسوان والبحيرة والجيزة، ومن الذين قادوا هذه المعارضة، على سلامة، القطب الوفدى الكبير وسكرتير عام مساعد الحزب ورئيس اللجنة العامة فى محافظة الجيزة. 

واقتنع فؤاد باشا بوجهة نظرهم وتناسى حواراته الطويلة مع الأستاذ هيكل وإبراهيم شكرى وهو فى معتقل الرئيس السادات، إلى أن أفرج عنهم الرئيس حسنى مبارك فى بداية حكمه. 

كلفنى الباشا سراج الدين بالاعتذار للأستاذ هيكل، ولكن الأستاذ قال لى: تعرف.. كنت أتوقع اعتذار الوفد عن عدم النشر. 

وجد عباس الطرابيلى نفسه فى مواجهة سؤال: هل كان رد الأستاذ نابعًا من مصادر معلوماته أم أنه كان يتوقع ذلك لسابق معرفة بالمعارك القديمة بينه وبين الوفد؟ 

عاد جمال بدوى من رحلته مع الرئيس مبارك، وما أن عرف بالقصة حتى ذهب للقاء الباشا فى قصره بجاردن سيتى، ولما لم يقتنع بوجهة نظره، قدم استقالته من رئاسة تحرير الجريدة. 

وضع هيكل هذه القصة فى دفاتر النسيان، لم يتحدث عنها، ولم يسأله عنها أحد، ولا أحد يدرى هل نشر المقال الذى كان قد أعده للنشر فى الوفد.. أم أن المقال دخل هو الآخر ملفات النسيان؟ 

 

من بين مفاتيح هيكل التى لا بد أن نستسلم لها تمامًا، أنه يكون واضحًا عندما يريد، ويكون غامضًا عندما يشاء. 

كان يضع المنهج، ويعرف كيف يخرج عليه، يطوّع كل شىء لما يريده هو. 

أسمعه وهو يقول: إحدى أزماتنا أن هناك رواة كثيرين، وروايات أكثر، لكن لا أحد يدقق، المشكلة أيضًا أن أحدًا لا يسجل، ويكتفى الجميع بالاعتماد على الذاكرة، والنتيجة أنهم فى كل مرة يتكلمون فيها عن واقعة أو رواية يضيفون جزئية صغيرة يحاولون بها تجميل صورة، أو تشويه صورة، وهذا عمل إنسانى مفهوم، ولكن مع الوقت واستمرار الحذف والإضافة تظهر الروايات عن الوقائع والأحداث فى صورة بعيدة عن الحقيقة، وليس لها علاقة بالواقع، وتصدر الأحكام بناء عليها. 

ويضيف هيكل: أنا وقعت فى هذا الخطأ، فقد قمت بكتابة كتابين عن السويس، أحدهما اعتمدت فيه على الذاكرة فكانت الأخطاء فيه فظيعة، والثانى اعتمدت والتزمت فيه بالوثائق. 

لقد مارس الأستاذ هيكل نوعًا من المجابهة يمكن أن نطلق عليه «المواجهة بالوثائق».. وهى المواجهة التى مكنته من أن يقول ما يريده دون أن يعترض طريقه أحد، رغم أننا لو حاسبناه بنفس المنهج سنجد تناقضات كثيرة بين رواياته على امتداد عمره.. وهى التناقضات التى وقف أمامها الكثيرون عاجزين تمامًا، اعتقادًا منهم أنهم حتمًا على خطأ.. لأن الأستاذ لا تزل قدمه أبدًا. 

لقد ازدادت المناطق الرمادية فى حياة هيكل، لأنه كان كثيرًا ما يعطى إشارة يمينًا ثم يتجه إلى اليسار. 

فى مناسبات كثيرة تحدث ليرسى مبدأ يمكن أن نلخصه بقوله هو وبكلماته هو: عودت نفسى أن أتجنب الرد على الكثير مما يمكن أن ينشر عنى أو يذاع، ولم يكن ذلك عن بلادة حس أو عن مركبات غرور، وإنما كان دافعى إليه أننى أعرف من واقع الحال وعن طبائع الظروف ما يغنينى وأكاد أقول يرضينى. 

ويضيف: إننى تمثلت بنصيحة الفيلسوف القديم «قل كلمتك وامش»، وقد قلت كلمتى ومشيت، ولم أسمح لنفسى أن أتلكأ على باب أو أن أقف فى انتظار دقة جرس. 

ويعترف: لقد هممت فى بعض المرات أن أرد على القائلين وأن أصحح، لكنى فى معظم المرات نجحت فى أن أتغلب على نوازعى- وهى إنسانية- وأن أتنازل عن حق الرد وهو شرعى، أو على الأقل ينبغى أن يكون كذلك. 

لم يكن ما قاله هيكل دقيقًا أبدًا، فعلى طول حياته وهو يرد على كل من يتحدثون عنه، لكنه كان يفعله فى معظم الأحيان بترفع، فلا يرفع خصومه إليه، بل يرد عليهم من علٍ، وقد يكون من بين ما فعله هيكل أيضًا أنه كان يستخدم رجال جيشه فى الرد على خصومه، وأعتقد أن كثيرين من الكُتاب الذين التفوا حوله فى سنواته الأخيرة كانوا سلاحه الخفى. 

لم يكن هيكل يغوص بقدميه فى وحل المعارك، بل كان يترك ذلك لآخرين، محاولًا إقناعنا أنه لا يتورط فى رد لا يريده. 

شىء آخر أعتقد أن أحدًا لا يتوقعه عن الأستاذ هيكل، فقد كان يرد على خصومه فى جلساته الخاصة بما يهينهم ويجهز عليهم تمامًا.. ثم يترك لمن يجالسوه أن ينقلوا عنه ما قاله.. فيظل ما قاله هذا يطارد خصومه دون أن تكون لهم القدرة على الرد عليه أو مواجهته به.

من كتاب «هيكل.. المذكرات المخفية» لمحمد الباز.