رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شوف بقينا فين يا قلبى؟!

لا أعرف كيف يفعلها بليغ حمدى معى دائمًا؟! لا تفشل جملة موسيقية هو مُنشئها فى اقتيادى كالأعمى الذى يسلم يديه وعقله، ويسير معه وسط حقول الذكريات التى يختارها بعناية فائقة، ويسير بها خطوة فخطوة، دون استعجالٍ، ودون تلكؤٍ أو تأخير.. يدعمها مرة بالتفاصيل الصغيرة، ومرةً يتركها تسبح فى الفضاء وحيدة، لكننى فى كل مرة لا أجد قدامى من طريقٍ سوى ما يريد هو، وما يرسمه من خطوط واتجاهات.. يقطعها بخطفة كمان جريح، أو جملة «ساكس» يبحث عن براحٍ يملأه بالروائح والصور وقصص الأيام التى لا تعود، باستطراد ينفرد فيه الإيقاع بالقلب فيعيثان معًا فى الأرض بهجةً وفرحًا.. وتسير خطواتى إليه طائعة هينة، ودون مقاومة، فترتسم على جدران الروح حالة من الشجن والوجد والطرب والرغبة فى مراقصة الدنيا ومَن فيها.

بالأمس كنتُ على قلقٍ، لا تستقر فى الرأس فكرة، ولا تروح حكاية أو تأتى، تتداخل الصور والأفكار والرغبات، وتتزاحم، فتضيع جميعها، ولا يبق منها سوى احتمالاتٍ لا تستقر حتى تهدها أخرى.. هى حالة من اللاشىء الجميل، ومن الفراغ المملوء بفوضى من التصورات والأسماء والحكايات والأيام والليالى، أحبها ولا أنزعج منها، ولا أفعل شيئًا لمقاومتها أو الخروج منها.. وكان أن قررت التجول قليلًا فى شوارع وسط القاهرة بحثًا عن لا شىء آخر.. فلم تمض دقائق من التسكع بالقرب من ميدان «باب اللوق»، حتى جاءنى صوت عبدالحليم حافظ يملأ المسافة من أول شارع «منصور» متسائلًا: «شوف خدتنا لفين يا قلبى وهى راحت فين؟!»، وأنا لا أرد سؤالًا لعبدالحليم حافظ، ولا أرفض له طلبًا، ولا أتأخر عن سماع أغنيةٍ له، تطلب الجلوس والإنصات والتحليق مع ما تفيض به من حكاياتٍ يظن الغافل أنها ذهبت طى النسيان، وهى قد تذهب بالفعل، وتضيع فى متاهات الدنيا وزحامها الذى لا يرحم أحدًا، ولا يفلت منها أحد، إلا إذا لمستها يد «النباش» الأعظم بليغ حمدى، تلك اليد التى لا تترك ذكرى دون «نبشها»، وقلقلتها، والتلويح بها قدام عينيك وكأنها تحدث الآن.

كانت ليلة عيد ميلادها، وكانت الليلة الأولى التى لا أقدر على مهاتفتها فيها، ولا الكتابة إليها، ما زلت أحتفظ برقم هاتفها المحمول، وما زال يتصدر قائمة مفضلاتى، لكن شيئًا ما بالقلب لم يكن هنا.. لم تكن قهوتى قد تم إعدادها بعد، ولم أكن على عجلٍ من أمرى، لم أطلب القهوة أصلًا إلا لأنها المشروب الأقرب إلى لسانى، أطلبها أحيانًا لمجرد الرغبة فى الجلوس على المقهى، ورؤية وجوه الناس وتأملها أو محاولة قراءة ما خلفته عليها الأيام، حتى أننى تعودت على تناولها باردة.. كثيرًا ما تركتها تبرد فى مكانها، وكثيرًا ما تركتها هكذا دون أن تقترب من فمى، خصوصًا فى تلك المقاهى التى لا تضع أمثالى من محبى البن الغامق «غير المحوج» ضمن حساباتها، لكننى أطلبها فى كل الأحوال، ولا أملك غير الاستجابة لتعليمات صاحب المقهى الذى طلب ذات يومٍ من «الريس حنتيرة» أن يتوقف عن الغناء، قبل أن يوجه كلامه لجموع الجالسين «اللى ح يطلب راح يقعد، واللى ما يطلبش يبعد»..

طوال سبعة وخمسين عامًا، لم يحدث أن طلبت سوى القهوة، إلا فى مراتٍ نادرة ومعدودة، ولا أظن أنها بأى حالٍ من الأحوال تزيد على أصابع اليد الواحدة.. ورغم أن المعلم لم يشر فى جملته الشهيرة إليها، ولا لأى مشروب آخر، بل قال كلمته واضحة جدًا ومحددة جدًا: «ولا حد قال هات تعميرة، ولا واحد شاى»، لكننى لم أجرؤ يومًا على طلب الشاى فى مقهى، أو أى مكان آخر، ولم أجرؤ على تناوله إن طلبه لى أحدهم دون سؤال، وإن سأل فلا مجال له، ولا لمجرد التفكير فيه.. الشاى فى مِلتى لا يأتى إلا من يدٍ واحدة وحيدة، هى يد رجاء السيد يوسف علامة، أمى، ولا أحد غيرها.. أحبه ولا أطلبه، لا أراه إن لم يقترن بيدها تقترب من فمى الصغير، بوجهها الأبيض المستدير، وشفتيها المبتسمتين دائمًا وهما تنفخان سطح الكوب لكى يبرد قبل أن تقربه منى، وهى تحاول تليين دماغى الناشفة: «خذ شفطتين بس قبل ما تروح المدرسة.. مش لازم تكمل الكوباية كلها».. الشاى من يد أمى سُكَّرهُ «مظبوط» دائمًا، لا يزيد فيفسد معه مذاق العشب الهندى، ولا يقل فيحتفظ بمرارته، ولا يأتى ذكره بغير صوتها.

وقف أحدهم فى الناحية المقابلة من الطاولة التى تخيلت أنها ركنى الخاص، لم يسألنى إن كان لدى مانع من اقتسام الطاولة معه، ولا يبدو أنه كان يشعر بوجودى من الأساس، سحب أقرب كرسى إلى يده، وجلس محاولًا إشعال سيجارة كانت ترقد فوق أذنه اليسرى.

لسبب أعرفه جيدًا، لم أنزعج منه، ولم أفكر فى مطالبته بالانتقال إلى طاولة أخرى كما اعتدت أن أفعل فى مرات كثيرة سابقة.. قلت موجهًا كلامى إليه: هذه الموسيقى تفتح النفس.. تاخد معايا ساندوتش؟! ولا تحب تاكل إيه؟!

لم يفشل طيف أمى أبدًا فى «التليين» من قلبى العنيد، أو التلطيف مما يراه المقربون حدة فى طبعى.. كان عبدالحليم حافظ وبليغ حمدى يواصلان «النبش» فى القلب المثقل بالذكريات: «تانى تانى تانى.. راجعين أنا وإنت تانى»، وكان أن نظر لى ذلك الغريب باسترابة، ولم يرد.. 

أطرق وهو يعد ما تبقى فى يده من عملات معدنية كان يلف حولها ورقة بخمسة جنيهات، ثم سرح فى عملية الحساب التى يبدو أنها لم تكن مريحة، فتركت على وجهه بعض الحسرة.. نظر إلى قطعة الخبز التى بللتها إحداهن قبل أن تشير بها إلى قطة لم يكن يبدو عليها الجوع، فتشممتها قليلًا، ثم تركتها ومضت.. 

وضع ما كان فى يده من نقود فقيرة فوق الطاولة، وبصَّ فى وجهى وهو يتمتم: من إمتى الجعان يا حج بيتسئل تاكل إيه؟!