رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ملك المزيكا.. حكايات تُنشر لأول مرة عن بليغ حمدى

ملك المزيكا
ملك المزيكا

ثلاثون عامًا على رحيل بليغ حمدى «٧ أكتوبر ١٩٣١/ ١٢ سبتمبر ١٩٩٣» تجعلك تعيد النظر فى كلمة واحدة من الجملة السابقة، وهى الرحيل، فهى كلمة لا تليق ببليغ، وتبدو لا قيمة لها أمام حضوره المتجدد، فلا تمر ساعة إلا ويُذكرك لحن له بأنه عصى على النسيان، وأنه جاء إلى الدنيا لكى يبقى.

بل تستعجب أن بليغ هو الملحن الوحيد تقريبًا الذى لا يمكنك أن تحصى عدد ألحانه، ليس فقط بسبب كثرتها وتنوعها، بل لأن هناك ألحانًا جديدة لم تظهر بعد للنور، لن يكون آخرها لحن «يا أرضنا» الذى يجهزه مطربنا الكبير على الحجار ليُضاف إلى روائع بليغ الوطنية.

الجديد أن هناك لحنًا جديدًا لبليغ، فخلال الأيام الأخيرة تواصلت شخصية كويتية مهمة مع أسرة بليغ حمدى، لتكشف عن لحن كان بليغ قد أهداه إلى تلك الشخصية أثناء فترة إقامة بليغ بباريس، وكان الرجل من المحبين لبليغ ويرتبط معه بصداقة وعلاقة إنسانية، ولم يجد بليغ ما يدلل له على محبته المتبادلة سوى أن يهديه هذا اللحن الجديد الذى ظل محتفظًا به طيلة هذه السنوات، ثم قرر أخيرًا أن يُفرج عنه، ويُسند إلى الشاعر الغنائى المصرى أمير طعيمة كتابة كلمات مناسبة للحن، وإلى صوت مميز ليغنيه، وجاء التواصل مع أسرة بليغ للحصول على التنازل القانونى تمهيدًا لتسجيل الأغنية، التى ستكون حدثًا ينتظره عشاق بليغ كما ينتظرون أغنية على الحجار.

فوبيا البوليس.. وجهًا لوجه مع وزير الداخلية المرعب 

بعد حادثة انتحار المغربية سميرة مليان بالقفز من شقته فى ديسمبر ١٩٨٤، والدوامة التى تلتها من تحقيقات ومحاضر ومحاكم انتهت بصدور حكم غيابى عليه بالحبس اضطره لغربة طويلة فى باريس، أصيب بليغ حينها بما يمكن تسميته «فوبيا البوليس»، حيث كان مجرد رؤيته رجل بوليس تصيبه بحالة من الفزع النفسى، إذ كان يُذكّره بالقضية المشئومة وبكابوس السجن الذى يطارده فى صحوه ومنامه.

وحدث فى يوم من أيام تلك المحنة أن دق جرس باب شقته بميدان سفنكس برنين متواصل، وقام هيثم، ابن شقيقه، ليفتح الباب متوجسًا من الزائر الغريب القادم بلا موعد، ولما نظر من عين الباب السحرية ولمح ضابط شرطة برتبة لواء، فإنه أسرع إلى عمه يخبره بما رأى ويطلب منه أن يغادر الصالون ويدخل حجرته تحسبًا للأمر، وأسرع بليغ بالتنفيذ وهو يفكر فى طريقة يتصل بها بمحاميه خشية أن يكون هناك أمر بالقبض عليه، وبعد دقائق ثقيلة جاءه هيثم بخبر الضيف الثقيل: «ده شاعر برتبة لواء شرطة اسمه إبراهيم موسى جاى يعرض عليك أغنية من تأليفه»، وأسرع بليغ إليه محتدًا ومحتجًا: «يعنى إنت جاى تزورنى كشاعر.. لزمتها إيه تلبس لى البدلة الميرى؟!».

وحمل بليغ معه تلك الفوبيا إلى باريس، فكان يتجنب كل ما يتعلق بالبوليس، وكانت المرات التى تعامل فيها مع البوليس الفرنسى معدودة واضطر إليها اضطرارًا، وخرج منها بنفس حالة الهلع النفسى، كانت أولاها عندما وجد ضابط بوليس فرنسيًا يطرق باب شقته بعد منتصف الليل، فوجئ به بليغ وتوترت أعصابه، ولم يسترد أنفاسه إلا بعد أن عرف سبب مجيئه؛ إن جيرانه قدموا بلاغًا يشتكون فيه من الإزعاج الذى يسببه صوت البيانو المرتفع الصادر من شقته، وعليه أن يتوقف فورًا عن العزف وإلا تعرض للعقوبة، وبالطبع لم يفعلها بليغ بعدها حتى يتفادى طرقات ضابط شرطة فى منتصف الليل.

وعندما اضطر لنقل البيانو إلى المطعم الذى يملكه صديقه محسن خطاب، والذى خصص له ركنًا يعمل فيه بعيدًا عن أعين زبائنه، فإن بليغ فوجئ بضابط شرطة من جديد فوق رأسه فى منتصف الليل، واتهمه هذه المرة بأنه ترك أبواب المطعم مفتوحة وأنواره مضاءة بعد الوقت المسموح به للعمل، وكان عليه أن يلتزم باللوائح والقوانين الفرنسية الصارمة.

لكن هناك واقعة لا تُنسى فى علاقة بليغ بالبوليس، عندما وجد نفسه يجلس بجوار وزير الداخلية الفرنسى شخصيًا!

وقتها كانت شبكة علاقات بليغ فى باريس قد بدأت تتسع وتتشعب، بعدما اتضح له أن الغربة ستطول وعليه أن يتكيف مع الحياة فى فرنسا، وكان من بين أصدقاء بليغ سيدة أعمال تونسية اسمها «زهرة»- بفتح الزاى- كانت تربطها صداقات وعلاقات واسعة بكل الدوائر، فى السياسة والبيزنس والفن، ولأنها مُحبة حقيقية للفن المصرى فإن بيتها بباريس كان قِبلة للنجوم المصريين فى زياراتهم للعاصمة الفرنسية، وبشكل خاص ربطتها صداقة قوية مع مديحة يسرى ومحمود عبدالعزيز وبليغ، ولما جاء بليغ للإقامة بباريس كان ضيفًا شبه دائم على سهراتها وحفلاتها.

وتلقى بليغ يومًا دعوة من مدام زهرة على سهرة، وحمل معه عوده وصحب معه صديقه محسن خطاب، وكان الجميع يُمنى نفسه بسهرة من الطرب على شرف بليغ وإحساسه، ولاحظ بليغ بمجرد قدومه اهتمامًا ما بضيف فرنسى، ظنه فى البداية واحدًا من نجوم البيزنس، فلم يهتم، إلى أن فوجئ بالحقيقة الصادمة: إنه وزير الداخلية الفرنسى «شارل باسكوا»، وكان من الوزراء النافذين فى الحكومة وعمل لفترة مستشارًا للرئيس جاك شيراك، وكان صاحب شخصية قوية ومرعبة.

امتقع لون بليغ ونشف الدم فى عروقه، وغطس فى مقعده وكأنه يختبئ من هذه الورطة، وراح يوجه نظرات العتاب واللوم لصاحبة البيت، وهو ما فهمته زهرة من أول نظرة فراحت تغالب ضحكتها على منظر بليغ، الذى ظل «مكبوسًا» ولم يتحمل كثيرًا هذا الموقف وبانت عليه أعراض فوبيا البوليس، فتحجج بتعب مفاجئ واختفى من السهرة فى لحظات!

وكانت السيدة زهرة صاحبة فضل فى تأثيث الشقة التى استأجرها بليغ فى ١٨ شارع سانت سين بقلب باريس، فبحكم خبرتها وإقامتها الطويلة ومعرفتها بالأسواق وأماكن الأثاث جرت عملية التأثيث بسهولة ويسر، ولكن ظهرت مشكلة طريفة بعدما اكتشف بليغ أن حمام الشقة يحتوى على خزانة فخمة ضخمة مثبتة بداخل الحائط، ورغم أنها مغلقة ولا فائدة منها إلا أنها أثارت هواجس محسن خطاب الذى ترك له بليغ مهمة تجهيز الشقة، وأصر محسن على فتحها، واتصل بصاحب الشقة للحصول على مفاتيحها، فأخبره بأن الخزانة تخص المستأجر السابق ولم يترك مفاتيحها، وكان الحل الوحيد هو الاستعانة بمتخصص فى فتح الخزائن، وهو أمر لا يمكن تنفيذه إلا بمحضر وإذن من البوليس!

ورفض بليغ بشدة الذهاب إلى القسم وعمل المحضر، وكان على محسن أن يحمل عقد الشقة ويُقنع البوليس للسماح بفتح الخزانة.

وطوال سنوات الغربة كان بليغ يتجنب التعامل مع البوليس، وأصعب موقف على نفسه- بجانب مشاوير البنك- هو المشوار السنوى إلى قسم البوليس ضمن إجراءات تجديد الإقامة، ولذلك كان يستعين بمحسن خطاب صديقه- وكل الأصدقاء إذا لزم الأمر- حتى يوفر على نفسه هذا العذاب. 

وفى إحدى المرات تعثر تجديد التصريح فهدد بليغ بالانتقال إلى اليونان حيث إجراءات الإقامة هناك أكثر يُسرًا.

ونكشف سرًا عندما نقول إن بليغ عُرضت عليه الجنسية الفرنسية لكنه رفضها بلا تردد، رغم أن الجنسية كانت توفر عليه عناء التجديد السنوى للإقامة، وتمنحه مميزات هائلة كمواطن، ورغم ذلك رفض أن يحمل جنسية غير المصرية.

الجنازة التليفزيونية.. وشهادة وردة مع وجدى الحكيم

بعد أربعة أيام من رحيله وصل جثمان بليغ حمدى إلى القاهرة، وشُيع الموسيقار الكبير فى جنازة مهيبة من مسجد عمر مكرم ظهيرة يوم ١٦ سبتمبر ١٩٩٣، وشارك فيها من المسئولين وزير الثقافة فاروق حسنى، ورئيس هيئة الاستعلامات ممدوح البلتاجى، وسعد الدين وهبة رئيس اتحاد الفنانين العرب، ومن أسرته شقيقه د. مرسى سعدالدين، وابن شقيقه هيثم حمدى.

ويكشف محسن خطاب، صديق بليغ الذى رافق الجثمان من باريس، عن أن الإذاعى الكبير وجدى الحكيم أحد أقرب أصدقاء بليغ قام بتصوير الجنازة بكاميرا تليفزيونية.

ويؤكد: «رأيت التصوير بعينى، ورصدت الكاميرا تفاصيل الجنازة منذ لحظة خروج الجثمان من مسجد عمر مكرم بعد الصلاة عليه، وكنت بجوار د. مرسى شقيقه، وهيثم ابن شقيقه، وعلى بعد خطوات كان يسير فاروق حسنى وعدد من الوزراء والفنانين، وظلت الكاميرا تدور حتى وصل الجثمان إلى عربية نقل الموتى التى حملته إلى مثواه الأخير..».

هناك إذن تصوير تليفزيونى نادر لجنازة بليغ، بشهادة واحد ممن حضروا الجنازة وشاركوا فى ترتيبها، فأين اختفى هذا الشريط؟

إننا نكون أمام وثيقة مهمة يكون الكشف عنها وخروجها للنور حدثًا سارًا للملايين من عشاق بليغ، ونظن أن أسرة الإذاعى الكبير وجدى الحكيم لن تتردد فى تقديم هذه الهدية فى ذكرى بليغ الثلاثين.

وكان وجدى الحكيم أقرب المقربين لبليغ ووردة، وأغلب حوارات بليغ الإذاعية كان هو محاوره فيها، وأخطر حلقات تليفزيونية لوردة كان هو محاورها ومنتجها، وفيها كشفت عن أسرار علاقتها ببليغ كاملة.

هذه الحلقات سجلها «الحكيم» فى باريس عام ١٩٩٦، وكان من شروط وردة فيها أن يكون مصورها هو شيخ المصورين السينمائيين الحاج وحيد فريد، وتولى إخراجها المخرج السعودى عبدالله باكثير.

وقبل سفره اتصل «الحكيم» بمحسن خطاب ليبحث له عن مكان للتصوير تكون خلفيته أشهر معالم باريس وفى القلب منها برج إيفل، لكن بعد وصوله وإجراء المعاينات على الأماكن المختارة، وأغلبها كان يملكه لبنانيون، وجد أن الأسعار مبالغ فيها جدًا، وأنقذ محسن الموقف بوصوله إلى اتفاق مع فندق شهير استأجر منه شقة فندقية بالدور الأخير تطل شرفتها على برج إيفل مباشرة، وتم فيها التصوير فعلًا، كما صحبت الكاميرا وردة إلى أماكن ميلادها ونشأتها فى باريس، ومنها مدرستها ومطعم «طمطم» الذى كان يملكه والدها وبدأت منه رحلتها مع الغناء.

وفى تلك الحلقات الوثيقة حكت وردة عن تفاصيل قصتها مع بليغ، وكانت ذكراه حية ساخنة لم تزل، وهى حلقات- كانت من إنتاج قناة الأوربت المشفرة- نتمنى أن تحصل قناة مصرية على حقوق إذاعتها، ففيها الكثير من الأسرار التى تخص حياة بليغ حمدى.