رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"رأس نفرتيتى 1".. شريف شعبان يكشف ألاعيب العالم الألمانى "بورخاردت"

رأس نفرتيتي
رأس نفرتيتي

شغل رأس نفرتيتي العالم في الفترة الأخيرة، وهناك الكثير من الأمور المتعلقة برأس الملكة، كيف خرجت من مصر، وكيف تم هذا الاكتشاف، والكثير مما سيكشفه الدكتور شريف شعبان، الخبير في الآثار المصرية القديمة، المحاضر بكلية الآثار في ثلاث موضوعات.

يقول شريف شعبان: "ليس ثمّة قطعة فنية مذهلة نالت شهرة في أي بقعة في العالم أو زينت أي متحف من متاحف الدنيا مثلما كانت رأس الملكة نفرتيتي، تلك القطعة الفريدة التي ليس لها مثيل من حيث الدقة في التنفيذ وروعة التفاصيل والألوان الزاهية وكأن النحات قد أنهى العمل بها أمس، وكأن رأس الملكة بديعة الحسن تنظر إلينا وتهم لتحدثنا.

وأضاف: "لنتخيل تحتمس النحات الملكي ببلاط العمارنة، بعدما استدعته الملكة كي يصنع لها تلك الرأس، فجلس أمامها يطالع حسنها داخل جناحها الملكي، أو أنها زارته في ورشته الملحقة بالقصر الملكي، وبعدها جلس يُشكّل بأنامله نماذج أولية للرأس من الجبس ثم همّ بإزميله كي ينحت القطعة النهائية من الحجر الجيري. فخرجت الرأس بارتفاع 48سم ووزن 20 كجم ملونة بطبقات من الألوان على الحجر. فالوجه متماثل تماما وسليم تقريبًا يمتاز بالسيمترية والملامح المصرية. زُيّن بؤبؤ العين اليمنى بالكوارتز ذا طلاء أسود ومثبت بشمع العسل ليعطي نظرة حقيقية، بينما فقدت العين اليسرى بؤبؤها وتركت بيضاء، وعلى رأس الملكة تاجها الأزرق المميز والذي لم تلبسه ملكة قبلها أو بعدها بينما يزين صدرها قلادة ذات صفوف مزينة بمختلف الألوان. 

رأس نفرتيتي

وأكد: "منذ أن قام النحات تحتمس بنحت تلك الرأس عام 1354 ق.م وإيداعها داخل ورشته، توارت الرأس عن الأعين آلاف السنين، حتى تم الكشف عنها في أوائل القرن العشرين. ولم يكن اكتشاف رأس نفرتيتي سوى عملية تندرج ضمن السرقة الممنهجة يجب فضحها في كل مكان.

تبدأ القصة في 6 ديسمبر 1912 في العمارنة، حين وجد عالم الآثار الألماني بورخاردت هذه التحفة الرائعة في ورشة النحات تحتمس  إلى جانب تماثيل نصفية أخرى غير مكتملة لنفرتيتي. ومن شدة إعجابه بتلك القطعة الفريدة ويقينه بأنها سوف تمكث في المتحف المصري بالتحرير، خدع بورخاردت السلطات المصرية في ذلك الوقت بكل ما أوتي من وسائل عندما قدم لمسؤول مصلحة الآثار المصرية صورة للرأس بوضع "لم يظهرها في أفضل حالاتها"، حيث كان الرأس ملفوفا في صندوق داخل إضاءة معتمة عندما جاء كبير مفتشي المصلحة الفرنسي جوستاف لوفيفر للتفتيش عما اكتشفته البعثة الألمانية، بينما كتب بورخاردت في يوميات الحفائر زوراً أنه وجد "رأس أميرة من الجبس" وليس رأسًا من الحجر الجيري الملون للملكة نفرتيتي.

كيف وصل الرأس إلى ألمانيا؟

في تلك الفترة، كان قانون الآثار ينص على أن كل بعثة تنقيب تحصل على حوالي 50٪ مما تم العثور عليه.

ويكمل: "بينما تأخذ مصلحة الآثار المصرية النصف المتبقي. وعندما تم الكشف عن رأس نفرتيتي جرت عملية التقسيم في منطقة العمارنة في أقل من شهرين، حينها قام الألمان بتغطية الرأس بالجبس والطين لطمس معالمها الجميلة كي يتسنى لهم أخذها خارج البلاد. ويبدو أنه كان يوجد اتفاق ينص بأن يحصل الألمان على القطع المصنوعة من الجبس بينما تظل القطع الكبيرة الحجرية في حوزة المصريين، وقد أراد بورخاردت بموجبه أن يـأخذ القطع الجصية المكررة بدعوى أنه ليس من الضروري أن تبقى في مصر.

وطبقاً لرأي السيد ج. رودير مدير متحف Roemer-Pelizaeus بهيلدسهايم عام 1924، والذي شهد عملية التقسيم، فإن الصندوق كان مفتوحاً وكان بإمكان لوفيفر أن يرى الرأس واضحا، لكنه لم يفعل.   

أما السيد جوتربوك أمين سر الجمعية الألمانية للشرقيات DOG شاهد التقسيم الآخر والذي أرسل خطاباً للسيد رودير حول الرأس والتقسيم، فيذكر أن الصور الفوتوغرافية لم تكن مفيدة بالنسبة لعملية التقسيم، كما أكد أن الحجرة التي كان بها الصندوق كانت ذات إضاءة سيئة مما سهل عملية الخداع. ويشير خطاب جوتربوك إلى رودير إلى أن بورخاردت كان يعرف تماماً ما كان يقوم به وأن الأمر لم يلتبس عليه، حيث عارض جوتربوك إدراج القطعة بأنها مصنوعة من الجبس، حينها رد بورخاردت بأن الجبس كان واضحاً أسفل الطلاء في بعض المناطق من الرأس وهو ما يعد افتراض "مبدئي" على أنها من الجص أو الجبس، وقد أخبر جوتربوك أنهم لم يستطيعوا عمل فحوصات دقيقة لأن الألوان يمكن أن تتضرر، وهذا ما يمكن عمله فقط في برلين. وبعدها إدعى بورخاردت كذباً بأنه قد أخطأ عند اكتشاف الرأس حيث أنها من الحجر الجيري. وفي حقيقة الأمر فإن أجزاء الحجر الجيري تبدو جلية في عدة مناطق من الرأس وهناك فارق كبير وغير محتمل للخطأ في الوزن بين قطعة من الحجر الجيري بهذا الحجم وأخرى من الجبس.   

عملية التقسيم

ويستطرد: ويذكر لنا مقال بجريدة الأهرام بتاريخ 9 يناير 1937 عملية التقسيم: " بعد عملية القسمة، كان للمكتشف حق حمل نصيبه صناديق ونقلها مغلقة للمتحف المصري بالقاهرة. وهناك تم ختم الصناديق دون اختبار محتوياتها. وقد أعفت تلك الأختام الصناديق من تفتيش الجمارك.. "وإذا ما كان هذا الأمر صحيحاً، فإن بورخاردت قد أرسل الرأس إلى برلين في صورة طرد عبر البريد. وبعد وصولها إلى ألمانيا، استمر بورخاردت في محاولاته لإخفائها عن الناس طيلة سنوات (حتى 1923) حتى لا تستطع مصر أن تطالب بها. فلم يقم بنشرها في عام 1913 ضمن بقية القطع التي عثر عليها في هذا الموسم كما كان من المفروض عليه أن يفعل، حيث كان أول نشر للرأس في عام 1923، ولم يتم عرض الرأس حتى ذلك التاريخ.

ويواصل:" وتشير بعض المصادر أنه في عام 1913، أعطى بورخاردت الرأس لتاجر آثار يدعى جيمس سيمسون ، لكي يخبئ الرأس في منزله طيلة عشر سنوات، ثم أعطاها للمتحف المصري في برلين (Ägyptisches Museum und Papyrussammlung) كهدية حيث قام هينريش شايفر مدير متحف برلين آنذاك بعرض الرأس أمام الزوار معارضاً رغبة بورخاردت، حينها انكشف السر الذي بات عشر سنوات طين الكتمان وخرجت الملكة أمام الجميع.

وما أن عرفت السلطات المصرية بخروج الرأس من مصر، حتى قامت على الفور بالمطالبة بعودتها كما تم منع الجمعية الألمانية للشرقيات DOG ومتحف برلين بعمل حفائر في مصر، فكان من الواضح بأن الأمر هو بمثابة انتهاك صارخ للقانون.

ويكمل:" في فترة العشرينيات (بداية من عام 1924) عمل كل من الألماني هينريش شايفر وعالم الآثار المصري سليم حسن والفرنسي بيير لاكو على التفاوض لإعادة الرأس لمصر. وفي عام 1929، قام لاكو والذي أجرى مفاوضات مع كل من الملك فؤاد الأول والوزير الألماني بارون فون شتورير Baron Von Stohrer بزيارة سرية لألمانيا لإتمام الصفقة. وفي ربيع عام 1930، تم التوصل إلى اتفاق بتبادل الرأس مع قطعتين مصريتين هامتين من تماثيل الدولتين القديمة والحديثة ونسخة من كتاب الموتى ذات رسومات بديعة بالإضافة إلى إصدار تصاريح حفائر. وقد ادعى مقال بجريدة ((La Bourse Egyptienne بتاريخ 13 ديسمبر 1933 والمقتبس من مقال بجريدة (La Libre Belgique) في 28 نوفمبر 1933 أن بارون فون شتورير قام بزيارة الملك فؤاد الأول في 9 ديسمبر من هذا العام بقصر المنتزه وأعلن قيام الحكومة الألمانية بمنح رأس نفرتيتي لمصر. ومع ذلك، وبعد عدة أيام قام الوزير الألماني بزيارة أخرى للملك وألغى المنحة لأنها قد لاقت معارضة شعبية واسعة في بلاده.

الملك فاروق

ويتابع:" ومع تولي الملك فاروق الأول عرش مصر، ومع قدوم عام 1942، طالبت مصر الجانب الألماني بإعادة الرأس مرة أخرى ، واعتبر السياسي والقائد الألماني هيرمان جورينج إعادة التمثال إلى الملك فاروق الأول كبادرة سياسية بين البلدين، حينها كانت أفضل دعايا للملك الشاب ونقطة بيضاء تحسب لعهده وسط صدامات سياسية عنيفة بينه وبين سلطة الاحتلال الانجليزي. ومع قرب تسليم الرأس لمصر، ذكرت مصادر قيام الزعيم الألماني أودلف هتلر بزيارة نفرتيتي لإلقاء نظرة الوداع، لكن الزعيم الألماني ما أن رآها حتى وقع في حب نفرتيتي ورفض طلب مصر رفضاً قاطعاً. وفي خضم نيران الحرب العالمية الثانية في عام 1943، نقلت السلطات في برلين الرأس إلى عدة أماكن سرية للحماية منها حديقة حيوان Flakturm ، ثم تم نقل رأس نفرتيتي إلى متحف التاريخ القديم ببرلين في 1944 بسبب القذف المدوي الشديد للمدينة والذي أصاب حديقة الحيوان ومستودع ضخم في الحديقة ببرلين. وفي أوائل إبريل 1945، ومع اقتراب الجيش السوفيتي من برلين، تم نقل الرأس مرة أخرى إلى منجم الملح Grassleben في منطقة land Brunswick وأصبحت تحت وصاية الجيش الألماني بالإضافة إلى مجموعة أخرى من القطع. وكان هذا الإجراء أمراً طبيعياً حيث كانت تلك المناجم والتي ترجع للعصور الوسطى قد نقرت على أعماق كبيرة بطقس جاف وهي ما تعد بيئة مناسبة لحماية وأمان القطع. وظلت الرأس مختبئة حتى سقوط برلين وانهزام الرايخ الألماني.

 وجاء يوم 12 مايو 1945 حيث تم التحفظ على الرأس من قبل الجيش السابع الأمريكي وأصبحت تحت وصاية قطاع القطع الفنية والأرشيفات MFA&A بالجيش الأمريكي والذي كانت مهمته حماية الكنوز التراثية بمناطق الحرب بأوروبا. كان كابتن والتر فارمر مدير نقطة التجمع المركزية بمدينة Wiesbaden قد حصل على سلطة حماية رأس نفرتيتي، حينها خطط الأمريكيون لنقلها إلى واشنطن العاصمة باعتبارها قطعة فنية يليق بالشعب الأمريكي المنتصر أن يشاهدها ويحتفظ بها، لكن الوثائق الأمريكية تدعي بأن الرئيس الأمريكي هاري ترومان - وتحت ضغط عدد من الضباط الأمريكيين على رأسهم فارمر نفسه الذين عارضوا الأمر بدعوى "أخلاقيات المهنة"- قد أمر بالابقاء عليها في ألمانيا، حيث دخلت ضمن مجموعة متحف شارلوتنبرج Charlottenburg ببرلين الغربية وظلت به حتى تم نقلها إلى متحف التاريخ القديم والذي تم تجديده.     

وبعد الحرب العالمية الثانية ، قدمت مصر طلبًا رسميًا آخر، ولكن هذه المرة إلى مجلس مراقبة الحلفاء الذي كان مسؤولاً عن القطع الأثرية في ألمانيا، ولكن في عام 1947 رفض المجلس طب مصر ونصح مسئوليها بإعادة تقديم الطلب إلى السلطات الألمانية الجديدة.

ومع توليه أمانة المجلس الأعلى للآثار في مصر عام 2002، اعتبر زاهي حواس خروج رأس نفرتيتي من مصر بطريقة غير مشروعة أمراً فاضحاً وقضية قومية لابد من التصدي لها وبالتالي يجب إعادته، وقدم من الوثائق والمستندات ما يشير إلى خداع بوخاردت في تهريب التمثال إلى الخارج. ففي عام 2005 ، طلب حواس أن تتدخل منظمة اليونسكو لإعادة التمثال. بعد ذلك بعامين، هدد بمنع إقامة أية معارض للقطع الأثرية المصرية في ألمانيا إذا لم يتم إعارة التمثال لمصر، ولكن مرة أخرى لم يجد أي رد. في المقابل، زعمت السلطات الألمانية أن التمثال هش للغاية بحيث لا يمكن نقله وأن الحجج القانونية المصرية لإعادته إلى الوطن كانت واهية.

التعنت الألماني

وقد ازداد التعنت الألماني في الرفض المستمر من مدير المتحف آنذاك وهو فيلدونج، حيث طلب منه حواس إستعارة الرأس فقط لمدة ثلاثة أشهر خلال افتتاح المتحف الكبير (حين كان مزمع افتتاحه في 2015)، لكنه رفض بشدة مدعياً نفس الادعاءات السابقة، رغم أنه قام بفعلة شنعاء تم ذكرها من قبل. 

في عام 2009 أرسل حواس طلبًا رسميًا لاستعادة التمثال النصفي إلى فريدريك سيفريد، مدير المتحف المصري في برلين، بينما في الثاني من يناير 2011 ، كرر طلبه إلى السيد هيرمان بارزينجر رئيس مؤسسة التراث الثقافي البروسيStiftung Preußischer Kulturbesitz من أجل استعادة التمثال كي يتم عرضها خلال افتتاح المتحف الآتوني بالمنيا (الذي كان سيتم افتتاحه في أوائل 2012)، ولكن لا حياة لمن تنادي، فقد تحججت السلطات الألمانية بقيام أحداث شغب خلال ثورة يناير وهو ما يمكن أن يعطل رجوعها، خاصة مع قيام مظاهرات في ميدان التحرير الملاصق للمتحف المصري تطالب ببقائها في مصر. 

والآن تحاول السلطات في مصر فتح ذلك الملف الهام من جديد في محاولة استعادة تلك الرأس، ومازالت المعركة مستمرة حتى الآن. وأطالب بقيام حملة رسمية وشعبية لاسترداد رأس الملكة نفرتيتي والتي تعتبر واحدة من أهم علامات الحضارة المصرية القديمة وتحفة فنية تمثل واحدة من أهم ملكات مصر والتي يجب أن تعود إلى حضن الوطن.