رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثمن الاستقلال

تدفع مصر ثمنًا غاليًا للصراع العالمى.. رغم أنه لا ناقة لنا فيه ولا جمل.. نحن دولة تريد بناء نفسها والحفاظ على استقلالها، والبعض لا يعجبه هذا.. على خلاف تحليلات جاهلة تقول إن دور مصر العالمى تراجع فإن مصر فى بؤرة الصراع العالمى.. بحكم الموقع وإمكانات جيشها الكبير يريد كل طرف أن يجتذب مصر لصفه.. ومصر لا تحركها سوى المصلحة الوطنية وما يخدم أهدافها فى التنمية.. بحسب صحيفة «وول ستريت جورنال» فقد رفضت مصر طلبًا أمريكيًا بإمداد أوكرانيا بالأسلحة.. بذلت مصر جهودًا كبيرة فى الوساطة بين روسيا وأوكرانيا لكنها لا تريد أن تكون طرفًا مباشرًا بالسلاح لحساب هذا الطرف أو ذاك.. تتحرك مصر وفق عقيدة تاريخية هى عقيدة عدم الانحياز.. عقب ثورة يوليو رحبت الولايات المتحدة بالثورة.. كانت نقطة الخلاف هى رغبة أمريكا فى أن تنضم مصر لحلف بغداد الدفاعى الذى يضم بريطانيا من بين أعضائه.. قال جمال عبدالناصر كيف نتحرر من الاستعمار ثم ننضم لتحالف يسمح للبريطانيين بالتواجد على أراضينا وقتما يريدون.. رفضت مصر سياسة الأحلاف وذهبت إلى مؤتمر باندونج ١٩٥٥ لتبحث عن مكانها فى العالم مع الدول التى حصلت على حريتها حديثًا ورفضت أن تكون حرية صورية.. نسج خيوط علاقة قوية مع جواهر لال نهرو قائد الهند ومع جوزيف تيتو الرئيس اليوغسلافى الشهير.. أعلن الثلاثة حركة عدم الانحياز فى ١٩٦١ وانضمت لهم عشرات الدول التى لا تريد أن تكون طرفًا فى الصراع العالمى بين القوتين العظميين.. الاستقلال له مزايا ولكن له ثمنًا لا بد من دفعه فى بعض الأحيان.. خفت بريق «عدم الانحياز» بعد رحيل نهرو، وبعده عبدالناصر لكنها بقيت كحركة وكمعنى حتى الآن.. على عكس ما يتخيل البعض فإن التغيرات فى سياسة الدولة المصرية عادة ما تكون خارجية وعلى السطح وترحل برحيل صاحب فكرة التغيير.. حافظت الدولة المصرية على عقيدة عدم الانحياز التى لم تمنعها من إقامة علاقات دولية مع كل الأطراف، بما فيها التحالفات الاستراتيجية فى لحظة معينة.. سقط الاتحاد السوفيتى ثم عادت روسيا كدولة قوية، وفى الحالتين كانت مصر تقيم علاقات قوية مع كل الأطراف.. لدينا مشروع كبير لإقامة مفاعل نووى بالتعاون مع روسيا، وتعاون صناعى وواردات من القمح ذات أهمية استراتيجية كبيرة لمصر.. علاقات التعاون والصداقة لا تدفع مصر أبدًا إلى اتخاذ خطوات متسرعة فيما يخص التعاون العسكرى أو إرسال قوات مصرية للخارج.. فى ٢٠١٥ ظهرت أفكار ومطالب بإرسال قوات مصرية لسوريا أو لليمن لكن مصر كانت لها أولويات أخرى.. أثبتت الأيام صحة نظر مصر ورجاحة رأيها، بغض النظر عن ما يجلبه ذلك من ردود فعل وقتية تسقط مع مرور الزمن.. بحسب ما نشرته الصحيفة فإن الكونجرس قرر إلغاء جزء من المعونات العسكرية لمصر ردًا على رفض مصر إرسال أسلحة لأوكرانيا.. المبلغ الملغى لا يتجاوز ٣٥٠ مليون دولار.. ليس لى أدنى علاقة بالسياسة ولكنى أظن أن هذه سذاجة من الأمريكيين.. خطوة مثل إرسال أسلحة لأوكرانيا تستدعى دفع عشرات المليارات من الدولارات وتقديم تسهيلات اقتصادية كبيرة وتاريخية حتى يكون الأمر مغريًا بالتفكير! هذه وجهة نظرى ككاتب ولا أعبر فيها سوى عن نفسى.. ما نشرته «وول ستريت جورنال» يشرح سر انشغال الصحافة الغربية بمصر هذه الأيام. الهجوم الإعلامى جزء من آلية الترويض والإزعاج بهدف إرغام مصر على الانصياع و«سماع الكلام».. فى مرحلة أخرى يصبح الهدف إزاحة القيادة التى تتخذ مثل هذه المواقف الصلبة والمبنية على المصلحة الوطنية والبحث عن أطراف أسلس قيادًا.. فى كل الأحوال تنفى هذه الأخبار وغيرها ما يروجه البعض عن تراجع دور مصر الإقليمى.. مصر تمسك بخيوط القضية الفلسطينية بأكثر مما تمسك أى دولة فى العالم، ونفوذها السياسى والتاريخى ليس فى حاجة للشرح.. الأمر نفسه فى السودان وعلامات الوجود المصرى ليست فى حاجة للشرح ولكنها مؤثرة على الأرض بأكثر من أى تأثير آخر.. الأمر نفسه فى ليبيا التى تمتد قبائلها فى أعماق الأرض المصرية، والأردن الذى تربطنا به صلات استراتيجية رفيعة، وغير ذلك الكثير.. وها هى الولايات المتحدة تطلب من مصر مساعدة أوكرانيا بالسلاح.. فإذا لم تكن هذه علامات وجود على المسرح الدولى.. فماذا تكون؟