رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التوازن الصعب.. كيف تتحرك إسرائيل بحذر بين اليونان وتركيا؟

جريدة الدستور

بعد أكثر من عقد على الاكتشافات فى شرق المتوسط، هناك من رأى أن «دبلوماسية الغاز» يمكن أن تعيد تشكيل العلاقات بشكل كبير بين دول الحوض، خاصة بعدما ساهم إنشاء منتدى غاز المتوسط بشكل فعال فى هذا الاتجاه.

ورغم ذلك، فإن الأشهر الأخيرة، وبعد التقارب بين تركيا ودول المنطقة، بما فيها إسرائيل، ازدادت التساؤلات حول خريطة التحالفات الجديدة فى شرق المتوسط، والإشكالية حول قدرة إسرائيل على التحرك بحذر بين اليونان وتركيا، وهو ما نستعرضه فى السطور التالية.

علاقة استراتيجية بين تل أبيب وأثينا بسبب غاز المتوسط والأوضاع الإقليمية

كان من المقرر أن يزور رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، أنقرة فى ٢٨ يوليو الماضى، فى زيارة هى الأولى لرئيس حكومة إسرائيلى منذ عام ٢٠٠٨، فى رحلة كانت تتضمن أيضًا زيارة قبرص واليونان، قبل أن يضطر «نتنياهو» إلى إلغاء رحلته فى اللحظة الأخيرة بسبب أوضاعه الصحية غير المتوقعة. وفى الأيام الماضية، أعلنت الصحف الإسرائيلية عن أن زيارة «نتنياهو» المؤجلة إلى قبرص ستتم فى ٣ سبتمبر المقبل، وستستمر لمدة يومين، وذلك بعد تأجيلها بسبب إجرائه جراحة لتنظيم ضربات القلب فى ٢٢ يوليو الماضى، دون أن تورد أنباء دقيقة عن موعد زيارته إلى تركيا واليونان، وإن كانت التقارير تؤكد أن الرحلتين تم وضعهما على جدول أعمال رئيس الوزراء الإسرائيلى خلال العام الجارى.

وتطورت العلاقة بين اليونان وإسرائيل إلى علاقة استراتيجية، تقوم على رؤية مشتركة لشرق البحر المتوسط، فى ظل علاقات مزدهرة فى مجموعة متنوعة من المجالات، بما فيها الطاقة والدفاع والسياحة والتكنولوجيا الفائقة والأمن السيبرانى.

وليس سرًا أن كلًا من إسرائيل وقبرص واليونان تولى أهمية كبيرة لتعزيز تلك العلاقات، باعتبارها جزءًا من استراتيجية شاملة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية للدول الثلاث، التى يعود تعزيز العلاقات بينها إلى عقد كامل، صاحبه تطور ملموس خلال الأشهر الأخيرة. ففى ٣١ يناير ٢٠٢٣، أصبح وزير الخارجية اليونانى، نيكوس ديندياس، أول وزير خارجية لدولة عضو فى الاتحاد الأوروبى يزور تل أبيب منذ تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة فى ديسمبر الماضى.

كما أن عودة «نتنياهو» إلى الحكم فى نوفمبر ٢٠٢٢ ساهمت فى تعزيز تلك العلاقات، لأنه يعد مهندس الصداقة الإسرائيلية اليونانية فى عام ٢٠١٠، كما كان أول من دعا إلى إقامة هذه العلاقة القوية مع اليونان.

وحتى بعد تشكيل حكومة نفتالى بينيت ويائير لابيد، التى حكمت لمدة عام ونصف العام فقط، كانت اليونان أيضًا ضمن أولويات الحكومة، لكن عودة «نتنياهو» ساهمت بشكل فعال فى تعزيز العلاقات القائمة والقوية بالفعل.

ويعد ملف الغاز على قائمة الملفات الحيوية التى تربط بين إسرائيل واليونان، مع الحديث عن مزيد من صادرات الغاز إلى أوروبا، خاصة بعد نشوب الحرب الروسية- الأوكرانية. ويأتى كل ذلك فى الوقت الذى تعانى فيه المنطقة من نزاعات مسلحة وخلافات سياسية، من بينها الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين، وإسرائيل و«حزب الله» اللبنانى، وأيضًا تركيا وقبرص، وتركيا واليونان.

تنسيق لتنفيذ الربط الكهربائى مع أوروبا.. وتعويل على التعاون الأمنى

بالتوازى مع التنسيق فى ملف الغاز، هناك أيضًا ملف الكهرباء، إذ تزداد أهمية ربط شبكات الكهرباء لإسرائيل وقبرص واليونان، وهو مشروع يدعمه الاتحاد الأوروبى، فى الوقت الذى تغذى فيه الحرب فى أوكرانيا والعقوبات المفروضة على روسيا أزمة طاقة عالمية، أضرت بشدة بالاتحاد الأوروبى، مما يسلط الضوء على اعتماد القارة على الطاقة الأجنبية.

وفى أواخر يوليو الماضى، أعلنت شركة «EuroAsia Interconnector»، القبرصية عن أنها منحت شركة «Nexans»، الفرنسية، عقدًا بقيمة ١.٤٣ مليار يورو لشراء كابل كهرباء بحرى؛ لربط شبكات قبرص واليونان وإسرائيل، ومن المقرر أن يمتد «طريق الكهرباء السريع» عالى الجهد، المدعوم من الاتحاد الأوروبى، لمسافة ١٢٠٨ كيلومترات، على طول قاع البحر الأبيض المتوسط، وعلى عمق أكثر من ٣٠٠٠ متر. ووُصف المشروع بأنه أطول وأعمق مشروع ربط كهربائى فى العالم، ويهدف إلى إنهاء عزلة الطاقة لقبرص وإسرائيل، وربط كل من البر الرئيسى الأوروبى عبر جزيرة كريت اليونانية. وحصل «طريق الكهرباء السريع» على ٦٥٨ مليون يورو من آلية التمويل الأوروبية التى تربط مرافق أوروبا، و١٠٠ مليون يورو من صندوق الانتعاش والصمود، المعتمد من الاتحاد الأوروبى، والتابع للحكومة القبرصية.

وبالنسبة لإسرائيل، فإنه بجانب ملفات الغاز والكهرباء والصفقات الاقتصادية، فإن اليونان تلعب دورًا محوريًا فى الحفاظ على الزخم الإيجابى فى العلاقات بين إسرائيل والاتحاد الأوروبى، إذ تتميز تلك العلاقات أحيانًا بالخلاف، مع ميل تل أبيب إلى الاختلاف عن بروكسل فى عدة ملفات، من بينها تفسير تحركات إيران، والخطوات الإسرائيلية فى الضفة الغربية، وملف بناء المستوطنات غير القانونية. أما بالنسبة إلى اليونان، فإن علاقتها بإسرائيل يمكن أن تكون مفيدة فى مجالات الأمن السيبرانى والدفاع، إذ يعقد وزراء الدفاع من الجانبين اجتماعات منتظمة، كما أن صفقات الأسلحة مدرجة على جدول الأعمال بينهما. وفى صيف عام ٢٠٢٢، ذكرت مجلة «فوربس» أن اليونان نشرت أنظمة إسرائيلية لمواجهة الطائرات التركية دون طيار، وحسب ما ورد، فإن اليونان أبدت اهتمامًا أيضًا بشراء صواريخ «SPIKE /NLOS» الإسرائيلية. وعلى الجانب الاقتصادى، ووفقًا لمكتب الإحصاء الإسرائيلى، فقد قفزت الصادرات الإسرائيلية إلى اليونان من ٤٤٢.٦ مليون دولار فى عام ٢٠١٩ إلى ٦٧٠.٣ مليون دولار فى عام ٢٠٢٢، بينما زادت الواردات من اليونان من ٣٢١.٢ مليون دولار فى عام ٢٠١٩ إلى ٥٨٧ مليون دولار فى عام ٢٠٢٢، كما تزداد فرص الاستثمار المشترك أيضًا، لأن إسرائيل هى مستثمر رئيسى فى السياحة والعقارات اليونانية.

تقارب حذر مع أنقرة دون تعويل على علاقات ناجحة وطويلة الأمد

خلال الشهور الأخيرة، اتخذت إسرائيل خطوات فى سبيل ترميم العلاقات الدبلوماسية مع تركيا، ولكن رغم عدم استعادة الثقة بين تل أبيب وأنقرة بالكامل إلا أن هذا الواقع الجديد يمثل قلقًا لليونان، وهو ما يتطلب من إسرائيل أن ترسم خطًا للتوازن بين علاقتها باليونان من جانب، وتركيا من الجانب الآخر.

كما أن التوقيت أمر بالغ الأهمية، إذ تتطلع اليونان إلى تسوية خلافاتها البحرية مع تركيا، مع الرد على تهديدات جارتها وحماية أمنها فى الوقت نفسه، وهو ما يمكن وصفه بشبكة العلاقات المعقدة بين البلدان الثلاثة.

وبالنسبة لإسرائيل، فإن ترميم العلاقات مع تركيا يجب ألا يأتى على حساب الأرصدة الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية والأمنية التى بنتها مع جيران آخرين فى شرق المتوسط، مثل اليونان وقبرص، والذى نتج عنه منتدى غاز شرق المتوسط، الذى أقيم بصورة رسمية سنة ٢٠٢٠، وضم أيضًا كلًا من إيطاليا، ومصر، والأردن، وفلسطين، وتقوم فيه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى بدور مراقبين. 

ولكن فى الوقت نفسه، فإن لدى إسرائيل مطالب من تركيا فى ظل الظروف التى تمر بها أنقرة من تدهور فى الأوضاع الاقتصادية، إذ إن هذا قد يكون هو الوقت الملائم للضغط على الرئيس التركى، رجب طيب أردوغان، لوقف مساعدة الذراع العسكرية لحركة «حماس» الفلسطينية، التى تعمل من إسطنبول، وتملك مكتبًا فيها يضم المبعدين من الضفة وغزة إلى الخارج.

أما بالنسبة لتركيا، فإنها تحاول أن تضفى طابعًا سياسيًا على المصالحة مع إسرائيل، وتحاول ربطها بالقضية الفلسطينية، بينما يبدو أن الأهداف التركية من التقارب مع إسرائيل هى اقتصادية فى أساسها، إذ أعرب «أردوغان» عن استعداده للتعاون مع إسرائيل فى مجال الطاقة ومشاريع أمن الطاقة، مع احتمال نقل الغاز الإسرائيلى إلى أوروبا، عبر تركيا.

ويأتى ذلك فى وقت تثير فيه الحرب فى أوكرانيا مخاوف بشأن الإمدادات، وهو ما تم وصفه بطموحات «أردوغان» فى تحويل تركيا إلى مركز تسويق دولى للغاز من الشرق الأوسط إلى أوروبا، هذا فضلًا عن رغبة تركيا فى الخروج من العزلة الإقليمية، وزيادة وجودها السياسى فى المنطقة.

فى إسرائيل، يفهمون أن العلاقة مع تركيا ستكون محفوفة بالمخاطر، وأن الصفقات الاقتصادية والدوافع المرحلية حاليًا قد لا تعتبر ضمانًا لتكوين علاقة ناجحة وطويلة الأمد مع تركيا، وهو ما يجعل إسرائيل تهتم بالبعد الإقليمى للعلاقات مع اليونان وقبرص.