رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شروط النهضة الصعبة

أكبر مشكلة تواجه أحلام النهضة المصرية أنها غائبة عن النقاش العام.. وأننا منشغلون بالنقاش حول «نتائج» تعثر النهضة دون أن نناقش «أسباب» تعثر النهضة.. وبين الاثنين فارق كبير.. ولو افترضنا أن كاتبًا دعا لمؤتمر لمناقشة أسباب التعثر التاريخى لمشاريع النهضة فغالبًا لن يلتفت إليه أحد.. فالمسئول المشغول بمواجهة تحديات يومية إقليمية ومحلية ودولية سيعتبر أن الوقت ليس مناسبًا.. والمعارضون عن قناعة أو عن مصلحة يرون أن الحكومات مسئولة عن كل شىء حدث فى العالم منذ خطيئة أبينا آدم وحتى صباح اليوم.. وبعض المؤيدين سيرون أن تعثر النهضة مجرد ادعاءات مغرضة من اللجان الإلكترونية وأن أولوية مواجهة هذه الأكاذيب اليومية مقدمة على كل شىء.. والمعارضون يرون أن الحكومات هى المسئولة.. وبعض المسئولين يرون أن القاعدة الكبيرة من الشعب لا تفى ظروفها بشروط النهضة.. والحقيقة أن كلا الطرفين على حق وأننا جميعًا مسئولون وضحايا فى نفس الوقت.. فالحكومات تدير وفق رغبة الشعب ومزاجه وميوله وظروفه حتى لو أنكر الطرفان ذلك ومشاريعها تتأثر به وتؤثر فيه.. وهناك بكل تأكيد العامل الخارجى الذى لا يمكن إنكاره.. تعال نضرب مثلًا بسيطًا.. كنت أقرأ أوراق الإمام الأكبر عبدالحليم محمود «١٩١٠- ١٩٧٨»، والذى تولى مشيخة الأزهر من «١٩٧٣- ١٩٧٨».. كان الرجل يعتز جدًا بدوره السياسى فى مقاومة الشيوعية التى يعتبرها ضد الدين.. فى سبيل هذا مد أواصر التعاون لأقصى درجة مع المملكة العربية السعودية وقتها.. قدمت المملكة تبرعات كبيرة بالعملة الصعبة لبناء المعاهد الأزهرية ونشرها فى قرى مصر المختلفة.. يعتز الرجل بأنه فى خلال سنوات قليلة بنى سبعة آلاف معهد أزهرى فى كل أنحاء مصر بمعدل معهد ونصف لكل قرية مصرية «عدد القرى حوالى ٥٥٠٠ قرية تقريبًا».. يقول الرجل إنه اعتمد فى بناء المعاهد على التبرعات الخارجية والداخلية.. وإنه كان يقبل تلبية دعوة الغداء من أى شخص يقدم عشرين ألف جنيه «بأسعار السبعينيات» تبرعًا لبناء معهد فى قريته.. ولا شك أن استضافة شيخ الأزهر على الغداء كانت تعنى الكثير لأعيان الريف فى ذلك الوقت.. كانت هناك أيضًا تبرعات المملكة للأزهر، والتى دفعت الحكومة لطلب التنسيق مع الأزهر وأن تدخل التبرعات ميزانية الدولة وأن تصرف وزارة المالية ما يريده الأزهر حتى لا تكون العلاقة ثنائية بين الأزهر والمملكة «روى الأستاذ حسنين هيكل القصة فى كتاب خريف الغضب»... سؤالى هنا هو ماذا «لو» أن هذه المعاهد السبعة آلاف كانت معاهد فنية صناعية؟ ماذا لو أنها جمعت بين تدريس الدين والدنيا؟ إن الدنيا التى أقصدها هنا ليست والعياذ بالله دنيا اللهو والملذات التى يصورها لنا البعض.. ولكنها دنيا العمل والبناء والعلم وإعمار الأرض.. ماذا لو درست هذه المعاهد مادة الدين إلى جانب فنون الصناعة والخراطة والكهرباء.. إلخ؟.. كم عامل ماهر كان سيكون لدينا عبر خمسة عقود؟ كم صناعة كان يمكن أن تأتى إلى مصر لتستفيد من هذه العمالة الماهرة والكثيفة.. إن «لو» هنا لا تفتح عمل الشيطان.. ولكنها تضع أيدينا على الطريق الخاطئ الذى سرنا فيه.. أو تم إرغامنا على السير فيه.. إنها قصة بسيطة وواقعية تجتمع فيها خطايا الدولة التى «تعامت» والمؤسسة التى قادت الناس فى الطريق الخطأ.. والدور الخارجى الذى يهمه تحقيق أجندته وفق مصالحه كما يراها.. وهناك أيضًا الشعب الذى لا يعى ما حوله ولا يملك الرؤية الناقدة للطريق الذى يُساق للسير فيه.. إننى أُكن كل احترام للأزهر الشريف ولكنى أسوق هذه القصة لأسأل.. هل كان حالنا سيصبح أفضل لو جمعنا فى هذه المعاهد وغيرها بين علوم الدنيا والدين ولو أعطينا الأولوية فيها لتعليم أبنائنا فى الريف علوم الصناعة وفنونها ليخرجوا من الفقر هم وأسرهم؟.. ألم يكن هذا وقتها ليكون أفضل خدمة للإسلام والمسلمين؟.. الموقف من الدين والدنيا هو إحدى الأزمات الكبرى لمشاريع النهضة المصرية ومن يقول غير ذلك كاذب ومخادع.. واجه محمد على باشا مؤسس مصر الحديثة هذه الإشكالية.. استعان بـ«كلوت» بك لتأسيس مدرسة الطب فى أبوزعبل، فتمرد الطلاب وحاول أحدهم اغتياله فى درس التشريح، لأنه اعتقد أن التشريح مخالف للشريعة.. استعان بالكولونيل سيف لتأسيس الجيش المصرى فحاول أحد جنوده اغتياله فى درس الرماية لأنه «كافر» ولا يجوز له تدريب المسلمين! وقيل إنه أبدى شجاعة نادرة وعنّف الجندى الذى حاول اغتياله لأنه أخطأ التصويب، وهذا يعنى أنه جندى سيئ! وأشهر القائد العظيم إسلامه فيما بعد وعُرف باسم سليمان باشا الفرنساوى! نعم نحن مسئولون عن إخفاق مشاريع النهضة بنفس مقدار مسئولية الخارج.. وبدون قراءة تاريخنا قراءة نقدية ومنصفة وشجاعة سنظل نتحرك فى نفس المكان ونواجه نفس الإشكاليات ونتبادل نفس الاتهامات ونضيع الفرص التى تأتى للنهضة.. وهى قليلة وشحيحة وربما تصبح منعدمة بعد سنوات قليلة.. ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد.