رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مرآة الضمير

هل ثمة مرآة تُرِي الإنسان دواخلَ نفسه ودواخلَ الآخرين؟.. هكذا طرح عميد الأدب العربي "طه حسين" سؤاله حول لغز الضمير الإنساني، لم تكن لتغني عنه شيئًا مرآةٌ عاديةٌ تعكس الضوء الساقط عليها، لكنه استطاع أن يبتكر مرآةً غيرَ عادية، تعكس الأنفس المعروضة عليها، محاولًا أن يُرِي ذوي الأبصارـ عبر مرآتهـ ما يراه ببصيرته، وتعمي عنه عيونهم .. 
وكما أن المرايا المادية تظهر فيها الصورة وكأنَّها في بُعدٍ آخر، أصغر أو أكبر من حجمها الطبيعي، وأحيانًا مقلوبة، فإن مرآة طه حسين الأدبية تلعب لعبتها، فهي تُظهر فصولًا من هَمِّ الإنسان المعاصر منعكسةً في صورة رسائل، يُنسب القسم الأول منها إلى الجاحظ نسبةً يَتشكَّك فيها، ويُنسب القسم الثاني منها إلى كاتبٍ مجهول، يكتب إلى صديقٍ مجهول، ووحده الضمير يبدو واضحًا تُجَلِّيه المرآة وبراعة القلم.
جاء في حوار إذاعي مع الكاتب الكبير يحيي حقي أجراه معه المذيع المثقف عادل النادي بتاريخ ‏25‏ أبريل سنة ‏1991م، أي قبل رحيله عنا بعام واحد وثمانية أشهر (توفي في ‏10‏ ديسمبر سنه‏1992م)،‏ والذي نشرته مجلة "الإذاعة والتليفزيون" في عدة حلقات بعد ذلك، قال يحيي حقي عن نفسه‏:‏ إنني الآن عندما أعيد قراءة مقاطع مما كتبته في "قنديل أم هاشم" أقول إنني كنت قليل الأدب وكنت بذيئا لأنني شتمت الشعب المصري شتائم فظيعة جدًا،‏ وأنا شديد الخجل بسبب ذلك‏،‏ فعندما أقول عن الشعب إن بوله فيه دم وديدان أي انه مصاب بالبلهارسيا والإنكلستوما أو أقول عن الناس إنهم يسيرون كالقطيع،‏ فليس فيهم من يسأل أو يثور ..‏ في مثل هذا الكلام بذاءة شديدة ولا بد من الاعتذار عنها‏، ‏ذلك ما قاله يحيى حقي بلسانه عن نفسه‏..‏
إنه الضمير اليقظ والانتماء الطيب لبلده الطيب من جانب كاتب كبير يُحاسبه ويوقظ فيه نبض الإحساس بوقع الكلمات وتبعات أثرها فيتراجع ويعتذر لكل الدنيا بصراحة ونقاء سريرة ..
يتفاوت الناس تفاوتًا كبيراً فيا مدى يقظة ضمائرهم، وفيما أنعم عليهم من ملكات روحية وإيمانية، فالبعض تاهت ضمائرهم وفقدوا ظل وجودهم، في حين أن البعض الآخر تتألق فيه الضمير ويتيقظ، لدرجة الإحساس الدقيق، وكلا الأمرين خطر على الحياة الإنسانية، لأنه في الحالة الأولى يستهدف صاحب الضمير المتحجر إلى القساوة والشر والتجرد عن المزايا البشرية، وفي الحالة الثانية يتعرض صاحب المزاج الرقيق إلى مؤثرات تقلق راحته وتسلب سكينة عيشه، وخير منهج هو طريق وسط بين الطرفين، فيناط بالضمير أن يرعى الإنسان حق غيره وأن يحسن ولا يسيء ، فتبلغ نفس الفرد قصارى ما تبلغه نفس طيبة من رعاية حقوق الناس ومن كلف بالخيرات وسخط على الشرور ..
ويُعقب الكاتب الكبير "رجاء النقاش" على تراجع وأسف "حقي" ويكتب: نحن هنا نقف مع يحيي حقي ضد يحيي حقي،‏ ففي الأدب الصادق الجميل فإن الزعل مرفوع أي أننا لا يجوز أن نزعل من أديب فنان قلبه علينا‏، ومن حق أديب كبير، موهوب وحساس ونبيل،‏ مثل يحيي حقي،‏ أن يقول ما قاله عن شعبه عندما وجد في هذا الشعب أحوالاً لا ترضيه في النصف الأول من القرن العشرين والغاضب الناقد الناقم هنا وهو يحيي حقي،‏ يريد بشعبه خيرًا ولا يريد به السوء،‏ وقد كان الأديب الروسي أنطون تشيكوف (‏1860‏ ـ ‏1904م)‏ يقول :‏ إن بلدنا روسيا بلد سخيف، غليظ القلب، ولم يتهمه أحد بالبذاءة أو قلة الأدب أو انعدام الوطنية، بل إن الذين يفهمون معني الغضب المقدس عند الأدباء والفنانين العظماء قد اعتبروا ما قاله تشيكوف صرخة من أجل نهضة شعبه وبلاده،‏ وهكذا نعتبر نحن كلمات يحيي حقي‏،‏ أو يجب علينا أن نعتبرها كذلك، فقد كانت كلها كلمات مبنية علي حسن النية والمشاعر الطيبة النبيلة والرغبة في أن يتحرك أهل مصر من نومهم واستسلامهم لظروفهم الصعبة السيئة.‏.‏
لا شك عزيزي القارئ أن نفوس الناس تختلف في سعتها وضيقها كما تختلف بيوتهم، فبعضها تفيض بغرف متسعة، وأخرى ليس بها إلا غرف ضيقة، ومن الناس من تضيق نفسه لثقب إبرة، ومنهم من تتسع حتى تحتضن الدنيا بأسرها، وتولد النفس ضيقة فيزودها الإحساس بالتجارب وينال التهذيب منها كل توسيع وعمق، ويضفي عليها الدين من أنوار الرجاء ما يفتح مغالقها، وينير ظلماتها، ويوسع رقعتها، ومن ضروب توسيع النفس ويقظة الضمير الاتصال بنفس كبيرة، والأخذ بتعاليمها، والتناغم مع حياتها، وما أكثر ما اتسعت النفس واستيقظ الضمير عند أهل الخير، وما أروع النور الذي يسقط على صاحب الضمير المظلم فيبهره بلمعانه ويجدد حياته ويضفي عليه هالة من النورانية القدسية التي توقظ ضميره وتوسع نفسه، ولا شك أن في يقظة الضمير سعادة كبرى، واستجابة إلى نداءات سماوية عالية، والاستمتاع بقيم رفيعة في الحياة..
ولقد كان عمل الأنبياء والهداة طيلة الزمان الغابر موجهاً إلى توسيع النفوس وإيقاظ الضمير في الأفراد والجماعات، فمتى اتسعت النفس تيقظ الضمير.. 
وبالمناسبة، أتذكر ما قاله الرئيس عبدالفتاح السيسي في اجتماعه بنخبة من علماء مصر في أول اجتماع لمجلس علماء مصر، قال "تعد منظومة القيم والأخلاق في المجتمع الحاكم الأول لسلوك المواطنين فى المجتمع، وأنها تقوم بدورٍ جوهري في تقدم الشعوب والأوطان، وتمثل حافزاً ووازعاً لمزيد من العمل والإنتاج، فضلاً عن نشر الرُقى والتحضر في جميع مناحي الحياة سواء في الشارع المصري أو على المستويين الثقافي والأدبي ..."..
وكان الدكتور محمد غنيم، عضو مجلس علماء مصر قد صرح بأن أعضاء المجلس عرضوا على الرئيس عبدالفتاح السيسي إنشاء لجنة لتنمية الأخلاق والضمير، وتعزيز قيم العمل والانتماء، لتباشر عملها تحت رعاية مؤسسة الرئاسة، موضحًا أن منظومة الأخلاق تحتاج إلى روابط حتى تتحقق، منها الأزهر، والتعليم، والإعلام، موضحًا أنه يجب تحسين الحالة الاقتصادية والاجتماعية حتى تحسن المحتوى الأخلاقي للأفراد..
ويبقى السؤال: هل نعاود المطالبة بتفعيل مطلب مجلس علماء مصر لإنشاء ذلك الكيان؟
رحم الله طه حسين ومرآة ضميره البديعة.. وهو من صار من أعمدة الحكمة في رواق الحضارة المصرية إلى جوار لطفي السيد وحسين هيكل وعباس العقاد.. وتيمور.. وأحمد أمين ومصطفى عبدالرازق وتوفيق الحكيم.