رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جريمة رياضية فى حق الدولة المصرية!

 

(1)

فى الوقت الذى تتجه فيه الدولة المصرية نحو فتح شرايين السياسة والاقتصاد والرياضة والفنون فى ربوع مصر وتعمل بكل قوة لدمج المصريين فى تلك الشرايين ومنحها حيوية شعبية، قام القائمون على منظومة كرة القدم المصرية عبر السنوات الماضية بارتكاب جريمة ضد هذا التوجه! كرة القدم هى الرياضة الشعبية الأولى فى مصر. وفكرة بطولة الدورى المصرى الممتاز تتخطى مجرد كونها منافسة رياضية، فهى إحدى مفردات ربط المصريين بأنشطة الدولة المتنوعة. هى بطولة شعبية تُعد مع باقى الأنشطة والفعاليات الرياضية والفنية من مظاهر حيوية الدولة وتُعد متنفسًا شعبيًا لكل أطياف المصريين وكل ربوع مصر الجغرافية. فكُرة القدم أصبحت الآن صناعة وسياسة ومن قوة الدولة الناعمة!

بالأمس أسدل الستار على المشهد الأخير فى نهاية سنوات من العقم الفكرى الذى سيطر على مستوى أداء من يديرون هذه المنظومة. فقد خرج بالأمس فريقان من الفرق المصرية الشعبية التى تمثل أجزاء من جغرافية مصر، خرج أسوان الممثل الوحيد لمحافظات الصعيد، وخرج فريق غزل المحلة!

والمصريون على أعتاب مشهد غريب شاذ فى بطولة الدورى العام القادمة. فمن بين ثمانية عشر فرقة، وإذا استثنينا فريقا الأهلى والزمالك، تصبح هناك أربعة فرق فقط من ستة عشر فريقًا هى ما يمكن تسميتها بالفرق الشعبية وهى "الاتحاد– بلدية المحلة– المصرى– الإسماعيلى"! هذه الفرق الأربعة تمثل الإسكندرية ومدن القناة ومحافظة واحدة من محافظات الدلتا! بما يعنى أن مصر من محافظة بنى سويف فجنوبًا ستكون خارج هذه البطولة الشعبية الأهم فى مصر! أكثر من ثلثى محافظات مصر مستبعدة من واحدة من أهم مفردات قوة مصر الناعمة التى تربط المصريين معًا! وأتمنى ألا يستخف بعقول المصريين أحدٌ ويريد إقناعهم مثلًا بأن نادى الجونة ونادى زد يمثلان الصعيد! فلا الجونة ولا زد يمثلان الصعيد! فهما ناديان خاصان بشركات أو بالأحرى هما ناديان عائليان!

(2)

فهل يدرك القائمون على منظومة كرة القدم خطورة هذه الحقائق؟! خطورة أن تسد وتكتم أحد الشرايين الشعبية الرياضية؟! قد يتساءل أحدهم عما كان يمكن أن يقوم به القائمون على هذه الرياضة؟.. إن العجز عن فهم خطورة الصورة الحالية، أو العجز عن فهم الدور الأصلى الذى كان من المفترض أن يقوموا به هو فى حد ذاته دليلٌ على عقم فكرى وقومى ينزع عنهم صلاحيتهم للجلوس فى مقاعدهم! وهذا الوصف هو أكثر الأوصاف تهذبًا وافتراضًا لحسن النوايا! فحسن النوايا لا يكفى لمنح المقاعد والمناصب إن لم يقترن بامتلاك صاحبه فكرًا يرتقى لما يمثله منصبه ومتطلباته!

اللوائح المنظمة لأية لعبة رياضية ليست كتابًا مقدسًا، وهى لوائح تُوضع أساسًا للقيام بدور خدمى شعبى ويمكن تغييرها وتدارك عوارها الشعبى وعجزها عن تحقيق الغاية منها! وليس منطقيًا أن تقوم الدولة بتوفير كل اللوجستيات اللازمة لإنجاح المنظومة شعبيًا، ثم تفسد العقول القائمة على المنظومة كل هذا الجهد، وتنتهى بنا إلى مشهدٍ هو الأغرب! مشهد يتم فيه تنظيم البطولة الأولى فى الدولة دون أكثر من ثلثى المصريين!

(3)

كان من المفترض من سنوات ومع بدء ظهور ظاهرة أندية الشركات أن يتنبه هؤلاء للظاهرة ويقومون بتعديل لوائحهم العقيمة، بما يمنح حماية وضمانات لتمثيل دائم لكل ربوع مصر الجغرافية فى البطولة. لم يكن مطلوبًا عبقرية متفردة، إنما نظرة مستقبلية ثاقبة. كان يكفى مثلًا وضع "كوتة" لا يتخطاها عدد أندية الشركات فى البطولة عن ثلاثة أندية! كان يمكن تنظيم مجموعة ترقى خاصة بأندية الشركات الصاعدة كل موسم ليصعد فريق واحد فقط مثلًا! كان يمكن تنظيم بطولة موازية اسمها دورى الشركات يتم تنشيطها ونقل فعاليتها وتعمل كمصانع لتفريخ المواهب للدورى الشعبى! كان يمكن لرجال الأعمال الراغبين فى اقتحام المجال الكروى أن يتقدموا كرعاة لأندية شعبية أو يتم استحداث منصب جديد كرئيس شرفى لمدة معينة بالانتخاب لمن يرغب منهم فى أضواء وبريق كرة القدم!

كان يمكن اقتراح أفكار خارج الصندوق لضمان وجود أندية تمثل محافظات مصر ولحماية وجود دورى شعبى حيوى يمثل كل أطياف المصريين! على الأقل من الناحية التجارية والاقتصادية المجردة هذا أفضل للتسويق والدعاية وعدد الحضور! ومن الناحية القومية هذا أفضل لضمان التفاف المصريين حول أنشطة الدولة الرياضية بدلًا من إقصائهم كما هو الحال الآن!

أين أندية المنيا وسوهاج وأسيوط؟ وأين أندية السويس والمنصورة؟ بل وأين أندية سيناء فى بطولة الدورى العام؟!

(4)

متى يدرك القائمون على الأنشطة الرياضية فى مصر أنهم ليسوا موظفين حكوميين بيروقراطيين، لكنهم يديرون منظومة رياضية شعبية نجاحها من نجاح الدولة ومن مفردات الأمن القومى المصرى؟! إن ما ظل يحدث فى السنوات الماضية وظل يتعاظم ككرة الثلج حتى شهدنا آخر مشاهده بالأمس هو إجهاض وإفساد لأهم فعالية مصرية رياضية شعبية، وإن لم يتم الانتباه له فسوف تصب نتائجه فى طريق إضعاف قوة مصر الرياضية على المدى البعيد، وسوف تصب نتائجه إلى ظاهرة عزوف شعبى رياضى على غرار ظاهرة العزوف السياسى التى وقع المصريون فريسة لها فى العقود الماضية نتيجة لسد الشرايين السياسية الشرعية. مصر الآن تعمل جاهدة على تصويب أخطاء الماضى على كل الأصعدة، فليس منطقيًا أن تقوم بذلك بينما يقوم آخرون بإجهاض جهودها فى واحدة من أهم مجالات الحيوية الشعبية! أتمنى أن يتنبه القائمون على الشأن الرياضى المصرى لخطورة ما حدث وأن يكون هناك تحرك عاجل لإصلاحه وتداركه.

أنا لستُ من مهاويس كرة القدم، لكننى أتابع أحداثها الهامة ككل المصريين، وأعرف ما تمثله لعموم المصريين، وأعرف خطورة أن يتم حرمانهم من الإحساس بالمشاركة والتواجد! حين كنتُ طالبًا بجامعة المنيا كنا نذهب لمشاهدة فريق المنيا وكان غالبية طلبة جنوب مصر يواظبون على ذلك، وكان يوم مباراة الأهلى أو الزمالك أو الإسماعيلى أو غيرها من الأندية بمثابة عرس فى المدينة أو (خروجة وفسحة) لنا، وكان الاستاد يمتلئ تمامًا.. هذه المشاهد فى المحافظات تفوق فكرة كرة القدم إلى مظاهر لالتفاف المصريين حول شىء ما! فهل يدرك السادة الذين يديرون المنظومة خطورة أن يتم اغتيال تلك المشاهد وتتحول استادات المحافظات إلى أطلال؟!

إن كانوا لم ينتبهوا لذلك سابقًا، فليتصرفوا حسب المثل القائل أن تأتى متأخرًا خير من ألا تأتى! وإن كانوا لا يرون فى هذا المشهد أى غرابة أو خطورة، فإننى أعتقد أن عليهم الانسحاب من المشهد لمن يدركون ذلك ولديهم من الفكر والأفكار ما يستطيعون به إصلاح ما فسد!