رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حكايتى مع 30 يونيو

"إذا أصبح محمد مرسي رئيسًا للجمهورية بموجب ما أطلق عليه الشرعية، التي اختزلها في "ورقة اقتراع"، فلا بد أن يرحل بنفس الطريقة، ورقة تحمل أسباب سحب الثقة منه". هذا ما قلته بعدما قررت التوقيع على استمارة تمرد. لم أكتفِ بالتوقيع، بل خرجت مع مجموعة من زملاء الحراك السياسي لنبحث عمن يشبهوننا ويسعون لاسترداد مصر من أيدي جماعة الإخوان.

كانت تلك اللحظة تخصني وحدي لكنها في نفس الوقت تماست مع رغبة أكثر من 22 مليونًا و159 ألفًا وقعوا على استمارة "تمرد"، لم يأبه بهم مرسي وقت أن كان يردد "الشرعية" 59 مرة في خطابه يوم 3 يوليو 2013، صمّ أذنيه عن مطالب شعب مصر، فنال ما استحقه. لكن هذه اللحظة لم تكن البداية التي شكلت وجهة نظري التي دفعتني لتلك اللحظة الحاسمة في ضميري الشخصي وفي تاريخ مصر، بل كانت هناك مواقف أخرى..

(1)

أذكر حكاية أبي التي أنقلها لكم كما لو سمعتها اليوم، ليس لدلالتها الفجّة على سوء جودة حياة المصريين في فترة ما بين ثورتي 25 يناير و30 يونيو، بل كونها رُويت وقت اجتماعنا العائلي السنوي، بين عائلة أبي "هُمام" وعمي "علي". ولأبي وعمي حديثهما المتجدد عن الأوضاع في الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، إلا أن اهتمامهما بلبنان كان متجددًا، لأن عمي الثالث -رحمة الله عليه- كان يعيش هناك.

كنت أنتظر تلك الحكايات والتحليلات بصبر كبير، تربيت عليها وعلى هدايا عمي "علي" من الكتب والروايات المطبوعة، والتحليلات المسموعة، حول الأوضاع بجميع بلدان الوطن العربي، غير أن تلك الليلة كانت مختلفة، كان أبي غاضبًا.

يومها قال لنا أبي: البلاد تمر بأزمة كبيرة، لا وجود للسلع الاستراتيجية سوى بصعوبة بالغة، لا لحم، لا أرز، ولا زيت، ولا حتى خبز، ورغم ذلك يتعامل أعضاء جماعة الإخوان في المدرسة - حيث كان يعمل مدرسًا للغة العربية بمدرسة طلعت حرب الثانوية العسكرية- بمنتهى الأنانية. أسمعهم طوال الوقت يتهامسون: "في رز.. روح خد، في لحمة.. بس بسرعة. كانت المساعدات تأتيهم من حيث لا يدري أحد، وكأنهم دولة منفصلة لا علاقة لها بباقي المصريين. هكذا فهمت من كلامه.

(2)

كان رجلًا لديه قدرة استثنائية على الإقناع، وصبر لا ينتهي، وحكمة من تخطى المائة؛ رغم أن عمره لم يكن قد وصل الخمسين بعد، اسمه"محمد فتحي عنبر"، رحمه الله. عرفته أول مرة في وسيلة مواصلات بمحل سكني في مدينة المحلة الكبرى، كان وقتها يتحدث مع الركاب، يحرضهم على التصدي للزيادة التعسفية في الأجرة بواسطة السائقين، ويوعيهم بضرورة رفض دفع أي قرش زائد عن الأجرة المحددة، يرد بسلاسة على كلام الركاب واعتراضات السائق، حتى أنهى الحديث قائلًا للسائق: "إحنا غلابة زي بعض.. تعالوا نتشطر على اللي خلى حياتنا جحيم.. منك لله يا مرسي".

(3)

في 2013 كنت طالبًا بجامعة المنصورة، أدرس بقسم الدراسات اليونانية واللاتينية، كانت لديّ اهتمامات سياسية رغم أنني لم أنضم وقتها لأي حزب سياسي، تخنقني الأطر فأفضل دومًا أن أترك لنفسي مساحة استيعاب جميع الأفكار، ثم أشكّل فكرتي الخاصة.

لكني لن أدّعي هذه المرة أنني تركت مساحة لاستيعاب جماعة الإخوان ولا حكمها لمصر، كنت أعرف جيدًا بحكم قراءة التاريخ، وبحكم ما مررت به منذ ثورة يناير حتى لحظة أن كتبت على "فيسبوك": (#مرسي_رئيسًا... اللعنة!) أن القادم لن يكون خيرًا بأي حال من الأحوال.

وما بين إعلان مرسي رئيسًا للجمهورية في 2012 وخلعه من كرسي الحكم في 2013، كنا قد عدنا حرفيًا لعصور الجاهلية، سواء على مستوى الفكر الاجتماعي، بما يتضمنه ذلك من تحالفات بعيدة عن مفهوم الدولة، أو التضييق على كل من لديه فكرة مختلفة أو يلبس زيًا لا يناسب أفكارهم، أو حتى على مستوى أهم إشارة للمدنية: لم تكن لدينا كهرباء. قطعها "الواد شعبان بتاع سكينة الكهربا، أبو 20 جنيه".

(4)

في 24 يونيو 2012، تم إعلان محمد مرسي العياط رئيسًا لجمهورية مصر العربية، وسط ترقب واسع. وضع مرسي لنفسه "خريطة الـ100 يوم"، وتعهد بتنفيذها خلال هذه الفترة، شملت الخطة خمسة محاور: الأمن، المرور، الخبز، النظافة، الوقود. لن أخبرك أنها جميعًا فشلت، لكن يكفيك أن تعلم أن محورًا مثل الأمن لم يتحقق منه أي شيء لتتصور الباقي، تضمنت الخريطة 64 وعدًا، تحقق منها 10 فقط.

(5)

تلك أجزاء من تجربتي مع الإخوان، لم يكن الـ"تمرد" خروجًا على الشرعية بقدر ما كان نتيجة لأفعال قادت لتلك اللحظة. أدرك أنه رغم ما سبق، يتواصل التكهن بما كان يمكن أن يحدث لو بقي الإخوان المسلمون في السلطة. وبينما من المستحيل معرفة ذلك بالتأكيد، وبينما نتذكر الثورة اليوم؛ فإننا نقف على مفترق طرق ما بين المضي قدمًا في الإصلاحات نحو مستقبل يحمل الوعد، وبين ما وصل إليه جيراننا، في كل الأحوال سيمضي مستقبلنا بواسطة خياراتنا التي نأمل أن تكون بنفس مستوى حكمة روح 30 يونيو.