رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

طباخ الرئيس.. الذي حاول الانقلاب على روسيا!


ما بدأ كخلاف كبير بسبب تفصبر الجيش الروسي في تزويد مرتزقة (فاجنر) بالمعدات والذخيرة الكافية، خصوصًا خلال معارك الاستيلاء على باخموت الأوكرانية، تحول الآن إلى تحدٍ مباشر للرجلين المسئولين عن الحرب: وزير الدفاع سيرجي شويجو وقائد القوات المسلحة فاليري جيراسيموف.. حتى الآن ما حدث لا يُعد انقلابًا، حيث لم تحدث محاولة لانتزاع السلطة من الحكومة.. كما أن (الشركة العسكرية الخاصة ـ فاجنر)، التي يرأسها يفجيني بريجوجين، لا تمثل الجيش أيضًا، على الرغم من أنه يدَّعي أنه يحظى بدعم واسع النطاق.. لكنها محاولة للإطاحة بكبار الضباط الروس، وبالتالي تُعد تحديًا لسلطة الرئيس.. وعلى الرغم من أن الزعيم الروسي، فلاديمير بوتين، هو من سمح لبريجوجين بتطوير قواته، إلا أنه بات من الواضح أن بوتين لم يعد يسيطر عليه بعد الآن، بعد أن نقل بريجوجين قواته عبر الحدود إلى روستوف، جنوب روسيا، ويبدو أنه حاصر مقر القيادة العسكرية الذي يدير المعارك الحربية في أوكرانيا، وهو ما أخذه الكرملين على محمل الجد؛ وأعلِنت منطقة موسكو بأكملها في حالة تأهب، في ظل (نظام عمليات مكافحة الإرهاب) الصارم، وهناك تدابير مماثلة جرى اتخاذها في منطقة فورونج، بالقرب من الحدود الشمالية الشرقية لأوكرانيا.
يقول الحكماء، (لا تدع الحية ترتع في صحن دارك)، كما قالوا (سَمِّن كلبَك يأكُلك).. فلطالما كان بريجوجين حليفًا وثيقًا للرئيس بوتين، وقويت شوكته تحت قيادته، أولًا كرجل أعمال ثري، ثم كزعيم للمرتزقة.. وتكبد مقاتلو فاجنر خسائر كبيرة في الأوراح، في معارك السيطرة على باخموت شرقي أوكرانيا، التي استمرت شهورًا .. وألقى بريجوجين باللوم على كبار الضباط العسكريين في نقص الذخيرة، وتجلى ذلك من خلال مقاطع مصورة وتعليقات صاخبة على وسائل التواصل الاجتماعي، كشفت عن إخفاقات وانشقاقات في الجيش الروسي في أوكرانيا.. ولم يصُب بريجوجين غضبه أبدًا على الرئيس الروسي بشكل مباشر.
وفي وقت سابق من الشهر الحالي، أيد الرئيس بوتين تحرك سيرجي شويجو لإلزام جميع قوات المرتزقة في أوكرانيا بتوقيع عقود للانضواء تحت لواء وزارة الدفاع، بحلول الأول من يوليو القادم، وهو ما رفضه بريجوجين، ورآه تحديًأ لنفوذه.. وفي كلمة مطولة، قال بريجوجين للروس، إن السبب الذي سِيق لشن حربهم كان كذبة ومجرد ذريعة لـ (مجموعة صغيرة من الحثالة) للترويج لأنفسهم وخداع الجمهور والرئيس.. وتسارعت الأحداث منذ ذلك الحين، حيث اتهم بريجوجين الجيش الروسي بشن قصف مميت على رجاله في أوكرانيا، لكن الجيش نفى ذلك، وفشل الرجل في تقديم الأدلة التي يتحدث عنها في كثير من الأحيان.. ومؤخرًا، أعلن بريجوجين عن انطلاق (مسيرته نحو العدالة)، عبر قوة تبلغ خمسة وعشرين ألفًا، وصفها بمجرد (احتياطي تكتيكي)، على أن يكون الجيش والبلاد بأسرها الاحتياطي الاستراتيجي.. فمن هو ذلك الرجل؟.
اشتهر يفجيني بريجوجين ـ 62 عامًا ـ بامتلاكه لشركات تموين ومطاعم وتوفير الطعام والشراب للمناسبات الرسمية في الكرملين.. وقد ظهر في إحدى أشهر صوره وهو يقدم طبقاً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين.. وقد عُرف الرجل فيما بعد بلقب (طباخ بوتين).. وينحدر كل من بريجوجين وبوتين من مدينة سان بطرسبرج، ثاني أكبر مدن روسيا، وتعود علاقتهما ربما إلى تسعينيات القرن الماضي، عندما كان بوتين يعمل في مكتب عمدة سان بطرسبرج، وكان يتردد حينها على مطعم بريجوجين الذي كان يحظى بشعبية بين المسئولين المحليين.. ازدهرت أعمال بريجوجين في مجال المطاعم وتوسعت، بعد إبرام عقود تغذية مع بعض الجهات الحكومية، مثل المدارس ورياض الأطفال، وفي النهاية مع الجيش، إذ وصلت قيمة هذه العقود إلى أكثر من ثلاثة مليارات دولار، وفقًا لتحقيق أجرته مؤسسة مكافحة الفساد، التي أسسها السياسي المعارض الروسي أليكسي نافالني.
في عام 2010 ربطت عدة تحقيقات صحفية بريجوجين بوحدة معلومات مضللة تعرف باسم (مصنع ترول) في سانت بطرسبرج.. وذكرت الأخبار أن المصنع ينتج موادًا وينشرها عبر الإنترنت بهدف تشويه سمعة المعارضة السياسية الروسية وتلميع صورة الكرملين من جهة أخرى.. ووفقا لتحقيق أجراه لاحقًا المستشار الخاص، روبرت مولر، عام 2016، كان مصنع الترول جزءًا من محاولة روسية للتدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية.. ونفى حينها بريجوجين وجود صلات له بالمصنع.. لكن في نوفمبر من العام الماضي، حينما كانت انتخابات التجديد النصفي في الولايات المتحدة جارية، اعترف بمحاولات التأثير على السياسة الأمريكية.. وقال بريجوجين، في بيان نشره مكتبه الصحفي: (لقد تدخلنا ـ في الانتخابات الأمريكية ـ ومستمرون بذلك، وسنواصل التدخل.. سنقوم بذلك بعناية ودقة ومهارة وبطريقتنا الخاصة، ونعرف كيف نقوم بذلك).
لسنوات عديدة نفى بريجوجين صلاته بمجموعة المرتزقة العسكرية فاجنر، بل رفع دعوى قضائية ضد الصحفيين الذين زعموا أنه أسسها.. ظهرت فاجنر لأول مرة في شرق أوكرانيا عام 2014، حيث ساعدت الانفصاليين المدعومين من روسيا في السيطرة على الأراضي الأوكرانية، وفي إنشاء جمهوريتين منفصلتين في منطقتي دونيتسك ولوهانسك.. ومنذ ذلك العام ، شاركت فاجنر في العديد من الصراعات في جميع أنحاء العالم، ولا سيما في سوريا وفي العديد من البلدان في إفريقيا.. ويقال إن المجموعة تشارك في الأعمال العسكرية في عدد من الدول التي تشهد صراعات داخلية، مقابل الوصول إلى الموارد الطبيعية فيها.. فعلى سبيل المثال، ذُكر أن عناصر المجموعة تحرس حقول النفط التي تسيطر عليها الحكومة السورية، مقابل الحصول على نسبة من عائدات الحقل.. في ليبيا، قاتلت فاجنر إلى جانب الجنرال خليفة حفتر، عندما حاول الأخير دخول طرابلس العاصمة، وتم تمويل المرتزقة من الدخل الناتج عن صناعة النفط في البلاد.. وفي جمهورية إفريقيا الوسطى، تقف المجموعة إلى جانب الحكومة الحالية في مواجهة المسلحين الإسلاميين المتشددين.
في سبتمبر من العام الماضي، وبعد ستة أشهر من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، اعترف بريجوجين فجأة أنه أسس مجموعة فاجنر، بعدما أثبتت أنها واحدة من أكثر الوحدات الروسية فعالية في الحرب.. (قمت بتنظيف الأسلحة القديمة بنفسي، وقمت بفرز السترات الواقية من الرصاص شخصيًا، ووظفت متخصصين يمكنهم مساعدتي في ذلك.. كان ذلك في الأول من مايو 2014.. حينها، ولدت مجموعة وطنية، وهي التي أصبحت فيما بعد تسمى كتيبة فاجنر)، حسبما قال بريجوجين عبر بيان أصدره مكتبه الصحفي وأكدته وكالة رويترز.
ويُعد بريجوجين من الموالين بشدة للرئيس بوتين، وهو أحد الأصوات القليلة البارزة التي أعربت عن عدم الرضا عن أداء قيادة الجيش الروسي في أوكرانيا.. وقف إلى جانب الزعيم الشيشاني رمضان قديروف في انتقاد ألكسندر لابين، أحد كبار الجنرالات الروس، وسخر منه لإخفاقاته في أوكرانيا، حين قال قديروف، إنه يجب خفض رتبة لابين إلى جندي وإرساله إلى الخطوط الأمامية.. مع أنه، من الناحية الرسمية، ليس له ـ أي بريجوجين ـ أي منصب رسمي في المؤسسة الرسمية الروسية، ورغم ذلك فإنه يتمتع بنفوذ وتأثير كبيرين، إذ يقول خبراء عسكريون إن الأسلحة المتطورة التي استخدمها مقاتلو فاجنر في ليبيا غير متوفرة في سوق الأسلحة، ولا يمكن الحصول عليها إلا من خلال اتصالات حكومية على أعلى المستويات.. كذلك، قام بريجوجين بجولة على السجون الروسية لتجنيد السجناء المحكومين للقتال في أوكرانيا، ومن المستبعد القيام بمثل هذا الخطوة بدون موافقة الجهات العليا في الدولة.. وقد شجع بريجوجين السجناء على الانضمام للقتال قائلًا، إن المجتمع سيحترمهم، وحذرهم من ارتكاب جرائم جديدة مثل الاغتصاب، (لا تشربوا الكحول، لا تتعاطوا المخدرات، لا تغتصبوا.. كونوا منضبطين). ووعد السجناء بأنهم سينتشرون في الخطوط الأمامية لمدة ستة أشهر، وبعدها سيكونون أحرارًا للعودة إلى ديارهم، وبسجلات جنائية نظيفة.. وقد عاد، في الآونة الأخيرة، سجين سابق أدين بتهمة القتل إلى بيته، بعدأن أمضى ستة اشهر في القتال، مع أن فاجنر تستخدم عناصرها كوقود حرب، وأن عددًا كبيرًا من مقاتليها قتلوا، خصوصًا في المعارك الضارية التي دارت حول مدينتي سوليدار وباخموت شرقي أوكرانيا.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.