رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأحلام قد تتأخر.. ولكنها لا تموت

يأتي معظم الإنتاج الاقتصادي في العالم من قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات.. ويلعب الأخير على وجه الخصوص دورًا في الاقتصاد العالمي أكبر بكثير مما قد يظنه كثيرون، وهو ما ينعكس بشكل واضح على نسبة قطاع الخدمات في الناتج المحلي الإجمالي للدول في العالم.. وتمثل الخدمات ما لا يقل عن 50% من الناتج المحلي الإجمالي في أكثر من نصف دول العالم، ونحو 65% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
ولعل قناة السويس تعد على قائمة اقتصاد الخدمات في مصر، إلى جانب أهميتها الاستراتيجية، والقوة النوعية التي تمنحها لموقع مصر على خارطة العالم.. وهذه النقطة بالذات هي ما جعلت مصر هدفًا للمؤامرات والمكائد، ووقفت بعض الدول حجر عثرة- في أوقات سابقة وما زالت تحاول- ضد أي تنمية لهذا الشريان المائي الحيوي، الذي يمنح القوة لمصر، اقتصاديًا وجيوسياسيًا، بل وعسكريا، ولا غنى عنه للعالم في حركة تجارته اليومية.
لذلك، فطنت الدولة المصرية، منذ خمسينيات العام الماضي، لأهمية تعميق المجرى الملاحي للقناة، بل وضرورة ازدواجية مساراته، تسهيلًا على حركة السفن وتقليل زمن عبورها.. ويخطئ من يظن أن قرار الرئيس عبدالفتاح السيسي بحفر قناة السويس الجديدة كان ضرب عشواء، وأنه لم يأت نتيجة لدراسات متعمقة تسعى لتعظيم عوائد تلك القناة.. بل إنه من نافلة القول إن الحملة المسعورة التي شنها أذناب جماعة الإخوان، ومن سار على دربهم، إنما هي من قبيل "حرق الدم" الذي يعانون منه، وهم يرون أن مصر قد قامت بثورتها في الثلاثين من يونيو لتصبح بعده دولة حقيقية، ثم بدأت هذه الدولة مسيرة البناء والتنمية من أجل غدٍ أفضل لمواطني هذا البلد الطيب، مصر.

تعالوا نقرأ أحدث ما كشفت عنه الوثائق البريطانية، وما تؤكده من أن بريطانيا كانت وراء إجهاض سعي مصر للحصول على قرض من البنك الدولي لتنفيذ أكبر مشروع لتطوير قناة السويس قبل 65 عامًا.. والتي أشارت إلى أن الجيش البريطاني كان له دور مؤثر في اتخاذ لندن قرار الاعتراض على التمويل الدولي للمشروع، الذي جاء بعد عامين فقط من تأميم شركة قناة السويس.
في شهر يونيو 1958، شرعت مصر في التخطيط لمشروع طموح لتطوير القناة بهدف تعظيم الاستفادة من الممر الملاحي العالمي في تنفيذ مشروعات التنمية الوطنية.. تألفت الخطة، التي أطلق عليها اسم "مشروع ناصر"، من ثلاث مراحل.. هدفت المرحلة الأولى إلى زيادة عمق القناة كي تستوعب السفن ذات الغاطس الذي يصل إلى 37 قدمًا بدلًا من 35 قدمًا.. وسعت المرحلة الثانية إلى تعميق الممر الملاحي إلى 40 قدمًا.
أما المرحلة الثالثة فقد طمحت إما إلى توسيع القناة بقدر كبير، وإما إلى حفر قناة موازية كي يسهل مرور السفن في الاتجاهين في وقت واحد، وهو الأمر الذي كان من شأنه زيادة حركة المرور في القناة، وبالتالي زيادة الدخل من العملة الصعبة.. وكان هذا يعني حاجة مصر إلى تمويل كبير، سوف تسهم فيه بريطانيا باعتبارها مساهمًا كبيرًا في البنك الدولي.
بمجرد تأكيد السفارة البريطانية في القاهرة عزم الحكومة المصرية التقدم بطلب الحصول على قرض، تتراوح قيمته بين 120 مليونا و200 مليون جنيه إسترليني، من البنك الدولي، طلبت الحكومة البريطانية من الجيش البريطاني تقييم المشروع من الناحية الاستراتيجية.. وفي تقرير بعنوان "الجوانب العسكرية لتطوير قناة السويس"، قال وزير الدفاع البريطاني، الذي رُفِع إليه التقرير النهائي، إن "رؤساء الأركان شددوا على أنه ليست هناك مزايا عسكرية في الاقتراح.. هناك اعتراضات عسكرية قوية للغاية عليه".. وحذر التقرير من أن هذا سيهدد حلف بغداد، ويثير غضب دوله التي تعول عليها سياسة بريطانيا في الشرق الأوسط.. وفي هذا الوقت لم تكن الولايات المتحدة تسهم بما يكفي في دعم دول الحلف.. وبعد مشاورات مكثقة، انتهت وزارة الخارجية البريطانية إلى تقييم مماثل استدعى السعي إلى إقناع الولايات المتحدة ودول أخرى، مثل كندا وأستراليا ونيوزيلندا، برفض طلب القرض المصري.

وفي برقية إلى ممثلي بريطانيا في الدول الأربع، قالت وزارة الخارجية إن "مثل هذا التطوير الضخم لقناة السويس سيكون له فائدة اقتصادية قليلة، أو هو عديم الفائدة، للمملكة المتحدة والدول الغربية الأخرى".. هكذا نظرت بريطانيا فقط إلى مصلحتها الذاتية.. وفي هذه البرقية، التي صُنِّفت بأنها عاجلة وبالغة السرية، نبهت الخارجية إلى التوجس من أن المناخ داخل أروقة البنك الدولي ربما يميل إلى الاستجابة إلى الطلب المصري.
وأشارت إلى أن الجنرال ريموند ألبرت ويلر، قائد سلاح المهندسين السابق بالجيش الأمريكي ومستشار البنك الدولي، يؤيد المشروع المصري بعد دراسة أجراها على نفقة البنك، "نعتقد أن الجنرال ويلر معجب بالتشغيل المصري للقناة، ومن المرجح أن يوصي بأن قرض البنك الدولي لتطويرها سيكون اقتراحًا تجاريًا جيدًا، ويجب أن يُمنح للمصريين إذا طلبوه".

وأقرت الخارجية بأن لموقف بريطانيا من المشروع المصري، الذي سماه البنك الدولي "برنامج ناصر"، بُعدًا سياسيًا.. وقالت: "سيكون لقرض البنك الدولي، وأي معونة غربية كبيرة لمصر، أضرار سياسية هائلة للغاية".. واتفقت الخارجية مع تقييم هيئة التخطيط العسكري، قائلة، في تقرير بشأنه، إن الحكومة البريطانية "قررت ممارسة الضغوط في مسعى لمنع البنك الدولي من إقراض مصر مالًا لتمويل تطوير قناة السويس"، ونبهت إلى أن هذا التطوير "سيؤدي إلى زيادة العوائد، الأمر الذي يعزز الاقتصاد المصري"، لذلك، طلبت الخارجية البريطانية إبلاغ الحكومات الأخرى بأن لندن انتهت إلى نتيجة، هي "إنه يجب أن نعارض بقوة أي اقتراح بأن يكون البنك الدولي مهتمًا بمشروعات تهدف إلى تطوير القناة".
وأرسلت الخارجية البريطانية برقية خاصة إلى جورج كرومر، مسئول الملف الاقتصادي في السفارة البريطانية في واشنطن، وممثل بريطانيا في المجلس التنفيذي للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، تتضمن "تعليمات بأن يبلغ وجهات نظرنا للحكومة الأمريكية، وبأن يضمن الدعم الأمريكي لنا"، وأبلغته بأنه "ليس لدينا اعتراض على أن يعطي الأمريكيون حفارات وجرافات لمصر، ولا نعترض على أن يوافق الأمريكيون على مثل هذه الطلبات".. غير أنها طلبت ألا تكون مساعدة الأمريكيين لمصر مجانية، "نفضل أن يكلفوا المصريين ثمنًا اقتصاديًا لتأجير هذه المعدات، وليس إقراضها بالمجان".

وتكشف الوثائق عن أن الخارجية البريطانية تحسبت لأن يؤيد ممثل كندا في المجلس التنفيذي للبنك الدولي طلب القرض المصري.. وفي أوائل يوليو 1958، أصدرت الخارجية تعليمات إلى المفوض السامي البريطاني في أوتاوا بالاتصال بالخارجية الكندية لشرح الموقف البريطاني وحشد الدعم له، وعبّرت عن خوفها من "أن يكون رد فعل ممثل كندا في المجلس التنفيذي للبنك الدولي هو أن يُترك للبنك دراسة مشروع القرض لمصر، بناء على جدواه المالية والاقتصادية، دون وضع الاعتبارات السياسية أو الاستراتيجية الغربية في الصدارة".

وظل الموقف على ما هو عليه حتى شهر مارس 1959، عندما عقد أوجين بلاك، ممثل البنك الدولي، اجتماعا دُعي إليه كرومر لبحث الطلب المصري، مبدئيًا.. وفي الاجتماع، قال بلاك إن المصريين "تلقوا بالفعل سبعة عروض قبل ستة أشهر، ومنحت أربع عقود لشركات أمريكية لتنفيذ أعمال مثل الحفر، بينما يتولى المصريون بأنفسهم الأعمال اللازمة على البر.. ومن المقدر أن تستغرق هذه المرحلة قرابة عامين".. وعَبّر بلاك عن اعتقاده بأن المصريين "ينوون المضي في هذه المشروعات على أي حال".. وتوقع أنه "يمكنهم أن يمولوها بأنفسهم خلال خمس سنوات".
وأبلغ بلاك فى الاجتماع بأنه تحدث مع شركات النفط، وهي ستاندرد أويل، رويال داتش وسوكوني أند جلف، التي "صرحت بأنها تفضل إجراء تحسينات في القناة، وليس اللجوء إلى بدائل أخرى، مثل إقامة خط أنابيب جديد أو استخدام ناقلات عملاقة".. ونقل عن هذه الشركات اعتقادها بأن "قرضًا من البنك الدولي يرمي، بقدر ما، إلى منع المصريين من الإقدام على أفعال غير ودية".. ووفق تقييمه، قال بلاك إنه لو قرر البنك منح مصر القرض فإن "تطوير قناة السويس سيكون أكثر المشروعات جاذبية من وجهة نظر البنك الدولي".. وأبلغ كرومر حكومته بأنه من الواضح أن رغبة بلاك الشخصية هي الموافقة على القرض.
غير أنه نقل عن بلاك تأكيده: "إذا لم تُقدَّم اعتراضات، فإنه سوف يرسل مبدئيًا بعثة أواخر شهر أبريل أو أوائل مايو لدراسة اقتصاد مصر، وإذا جاءت بنتائج مُرضية فسوف تتبعها بعثة لدراسة المشروع بالتفصيل".. وهذا لم يحدث.. ونفذت مصر المرحلتين الأوليين فقط من مشروع ناصر.
إلا أن الإرادة المصرية التي لا تلين، خصوصًا فيما يتعلق بمستقبل التقدم في البلاد، عادت إلى مشروعها القومي العملاق.. وفي يوم السادس من أغسطس عام 2015 افتتحت مشروع توسعة قناة السويس الذي يعمّق ويوسّع المجرى المائي لقناة السويس، بتوفير ممر مائي موازٍ لمرور السفن بطول 35 كيلومترًا.. وما زالت قوافل التنمية تسير رغم أنف كل حاقد.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.