رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أيام حمدى أبوجليل

الهلع الذى يصيبنى حين يصلنى خبر رحيل صديق عزيز، يدفعنى إلى حذف رقم هاتفه وحسابه على صفحات التواصل الاجتماعى، خوفًا من شىء غامض لا أعرف ما هو، استيقظت الأحد الماضى مبكرًا للحاق بجنازة صديقى الحبيب جورج إسحاق فى الكاتدرائية بالعباسية، وهو رجل له منزلة كبيرة فى قلبى، وأعرفه عز المعرفة، وجمعتنا ليالٍ لا حصر لها وأحداث وصداقات وحكايات، وقبل أن تستوى القهوة عرفت بخبر رحيل حمدى أبوجليل، نزل علىّ حزن زلزلنى وأجلسنى فى مكانى، الخميس الماضى كنت فى الفيوم لتشييع ميشيل باستورى، الصديق السويسرى الذى رحل بعد عامين من رحيل زوجته الفنانة العظيمة والصديقة إيفلين بورييه أم أنجلو وماريا الحبيبين، خبر رحيل حمدى جدد كل الأحزان القديمة، وفتح خزائن الذكريات، فى السنوات الأخيرة لم نلتق كثيرًا، لأن «الدنيا تلاهى»، ولكنه كان يفاجئنى بزيارات خاطفة على زهرة البستان، كنت أختلف معه فى بعض المسائل، ولكنى أقدر موهبته ولم يفتر حماسى له، ولم نتوقف عن الضحك كلما التقينا، أعرفه منذ مجيئه إلى القاهرة، قبل ثلاثين عامًا تقريبًا، وشهدت خطواته مع الكتابة من أولها، أحببت روايته الأولى «لصوص متقاعدون» التى صدرت عن دار ميريت وتحمست لها وكتبت عنها، صوت مختلف وخيال حوشى يلعب فى منطقة غير مأهولة فى الأدب المصرى الجديد، أحب كتابته كبار الكتاب، وصار صديقًا مقربًا لمعظمهم، خاصة إبراهيم أصلان وخيرى شلبى، عمل مع الأول فى السلسلة التى حاصرتها أزمة رواية وليمة لأعشاب البحر، وكان موقف أبوجليل بطوليًا، شلبى كان يعتبره امتدادًا له، بسبب انحيازه للشخصيات الهامشية فى الحياة، دار ميريت شهدت نجاحات حمدى وأشرف عبدالشافى وخالد إسماعيل وحسن عبدالموجود وأسامة الدناصورى وشحاتة العريان وعمر طاهر وسعيد نوح وأحمد العايدى وكثيرين غيرهم، وكان المشهد يؤكد على أن نهضة أكيدة فى الكتابة ستجتاح مصر، نهضة يباركها أساتذة كبار مثل أحمد فؤاد نجم وإبراهيم منصور وعلاء الديب ومحمد البساطى وسيد حجاب وجميل عطية إبراهيم وسيد خميس وحسنين كشك، بالإضافة إلى خيرى وأصلان، كانت الجوائز المخصصة للروايات محدودة، ولهذا السبب لم تكن هناك معارك كبيرة بين الكتّاب الشباب، كانت معارك صغيرة، يتم افتعالها أحيانًا لكى نضحك، كان يسكن حمدى فى مكان بالطالبية فى بيت يسكن فيه أشرف عبدالشافى وخالد إسماعيل، تطورت صداقتنا وصارت عائلية، خصوصًا بعد أن «ناسب» خالد حمدى، وحضرنا الفرح فى الفيوم، محمود الوردانى ومحمد هاشم وعمر طاهر ومحمد شهدى وأنا، وكنا نذهب أنا ومحمد هاشم وحمدى إلى المصيف مع أسرنا، ارتبط بأسامة الدناصورى فى سنواته الأخيرة، الذى لعب دورًا مهمًا فى حياته، أسامة شاعر كبير وسارد جميل ومثقف ثقافة نوعية، وكتب حمدى كتابًا عنه لم يعجبنى، لأنه اختزل أسامة فى بعض المفارقات المرتبطة بمرضه، ولم يقبض على منابع الشعر فى روحه، مشكلتى معه أننى أحببت رواية لصوص متقاعدون، وكنت أنتظر طوال الوقت عملًا لا يقل عنها مستوى، وهذا لا يعنى أننى لم أحب روايتيه «الفاعل» و«قيام وانهيار الصاد شين»، أو كتابه عن شوارع القاهرة والذى كان ينشره على حلقات فى جريدة الاتحاد الإماراتية، وهو كتاب لا غنى عنه لعشاق القاهرة، كان يمتلك طاقة كبيرة ويريد أن يفعل كل شىء مرة واحدة، كانت آراؤه السياسية صادمة أحيانًا، وكان يدافع عنها بحدة، وبسببها خسر أصدقاء كثيرين، لست منهم بكل تأكيد، وأراد أيضًا أن يغير الخطاب الدينى بنفسه، وكنت أخاف عليه وأقول له إن هذه منطقة شائكة ولها ناسها، الذين فى معظم الأحيان يتربحون منها، لم يتربح حمدى من الكتابة ولا من آرائه، ولكنه كان مندفعًا ويحب صوته وهو يتناقش، عاش شريفًا، ولم يطلب شيئًا من أحد، كان مبهجًا فى كل أحواله، كنت أتعامل معه على أنه من بقية أهلى، وسافر معى إلى قريتى لدفن ابنتى مريم الوليدة، واستأنف مع أقاربى حوارًا لا أعرف متى بدأ، سامحنى يا حمدى، لن أتردد فى حذف رقم هاتفك، رحمة الله عليك يا صديقى ورحم الله الأيام البلهاء العظيمة التى جمعتنا.